منذ أن عرفت مصر السيارات على نطاق واسع لأول مرة في بدايات القرن الماضي، ظهرت معاناة جديدة أضيفت إلى الكثير من المشكلات التي عانت منها البلاد وهي مشكلة السيارات الحكومية أو ما كان يعرف قديماً بإسم ركائب الحكومة التي كانت طيلة مائة عام مضت مثالاًً صارخاً للفساد وإهدار المال العام رغم المحاولات العديدة لإصلاح هذا الخلل.
بدأت الحكومة المصرية في استخدام السيارات في عشرينيات القرن الماضي مع بداية الانتشار الواسع للسيارات في القطر المصري حيث قامت الحكومة المصرية في تلك الفترة بشراء عدد من السيارات كي تخصص لاستخدام كبار مسئولي الدولة. نما هذا الأسطول الحكومي حتى أنه بحلول عام 1931 كان يتألف من 116 سيارة خاصة و762 عربة نقل و97 أوتوبيسا.
في تلك السنة، نشرت الأهرام تقريراً عن السيارات الحكومية مشيرةً إلى أن مجلس الوزراء كان قد أصدر قراراً لتوخي الاقتصاد في النفقات بإلغاء عدد كبير من سيارات الحكومة التي يستخدمها كبار الموظفين في تنقلاتهم وأشار التقرير إلى أن قسم النقل الميكانيكي وهو المسئول عن سيارات الحكومة قد تسلم سيارة مدير مصلحة التنظيم بينما يبرز الفساد في استمرار موظفين آخرين في استخدام السيارات الحكومية رغم صدور قرار بسحبها منهم. واستمر حال السيارات الحكومية كذلك حتى عام 1938 الذي قفزت فيه تكاليف تشغيل تلك السيارات حيث أورد تقرير صحفي حينها أن تلك السيارات الحكومية تستهلك ما قيمته 100 ألف جنيه من الوقود والزيوت سنوياً وكان رقماً باهظاً بأسعار تلك الفترة وكانت الزيوت والوقود تأتي من معمل التكرير الحكومي إضافةً إلى ما تضطر الحكومة إلى شرائه من شركات البنزين والزيوت. كان الفساد منتشراً حيث كانت تلك السيارات تستخدم في المشاوير الخصوصية لنقل أبناء المسئولين إلى المدارس و لشراء الخضروات. وبسبب ذلك تألفت لجنة حكومية لدراسة مشكلة السيارات الحكومية خلصت إلى تفعيل أدوات الرقابة على السيارات الحكومية مؤكدةً أن المشكلة لا تكمن في العدد الكبير للسيارات الحكومية أو في تكاليف تشغيلها الباهظة بل في استغلال تلك السيارات في أغراض شخصية لا تمت بصلة للهدف من وجودها. وقبل عامين من ثورة يوليو، نشرت مجلة الاثنين والدنيا تحقيقاً مطولاً عن سيارات الحكومة ألقى الضوء على مظاهر الفساد في هذا القطاع حيث جاء في هذا التقرير أنه "في صحراء العباسية حيث توجد مصلحة النقل الميكانيكي تتجلى أمامك دنيا السيارات الحكومية، وهي كدنيا الناس صاخبة مضطربة فيها ما في الدنيا من مظاهر اليسر والعسر والرفعة والضعة والفضيلة والرذيلة. وحين تروي ألسنة الرواة – من سائقين ومهندسين – بعض أحداث هذه الدنيا، سترى فيها ما يضحك وما يبكي ، ولكنك ستنتهي حتماً إلى التألم والحسرة .ز لأنك سترى أن هذه السيارات التي تكلف الدولة كل عام مائة ألف من الجنيهات تؤخذ من عرق الأجير والفلاح لا تستخدم في خدمة المصالح العامة عشر معشار ما تستخدم في ترفيه حياة بعض السادة من الوزراء وكبار الموظفين وحاشيتهم من الزوجات والأنجال والأصدقاء والصديقات وتيسير السبل أمامهم للهو الحلال أو الحرام.
سترى أن هذه السيارات الحكومية مسخرة لكل عجيب وغريب من الأغراض .. لنزهة الحرم المصون أو لذهاب الأنجال إلى السينما أو لشراء الخضر واللحوم والفول المدمس من السوق أو لإحضار البدل والفساتين من دكان المكوجي وكثيراً ما يهان السائق بعنف لأن الفول الذي أحضره لم يكن كهرماناً أو لأن الروج الذي ذهب يشتريه من محل معين، ليس من النوع الذي طلبته ووصفته صاحبة الصون والكمال.
وما أحرج مركز السائق بين تعليمات المصلحة التي تأمره بعدم استخدام السيارة في عمل غير حكومي وبين أوامر سيده أو سيدته. إنه ليعاقب إذا جرح مزاج الباشا أو البك أو أي طفل من أطفال الأسرة الكريمة .ز والعقاب دائماً في رزقه، فهو إما خصم يوم أو أيام من مرتبه أو إنذار بالفصل، وإما نقل إلى بلد بعيد.. ,إذا علمت أن مرتب السائق 420 قرشاً فيما عدا عدد قليل من السائقين رفع مرتبهم كادر العمال، وعرفت أن هؤلاء السائقين متزوجون وذوو أولاد لأدركت أن النقل هو الفصل بعينه، لأن السائق المسكين لن يستطيع تنفيذه، إذ الحياة في البلد البعيد مستحيلة عليه.
ولقد أضطر أحد السائقين، يحن طولب بتوصيل الحرم والكريمات والأنجال إلى حفلة ساهرة، وانتظارهم ليعود بهم بعد منتصف الليل – اضطر إلى أن يذهب إلى إدارة النقل الميكانيكي بدعوى أنه سيطلب منهم إذناً بما يريدون! ويومها أرغمت لابسات الفساتين السواريه أن تجرر أذيالها ليبحثن عن سيارة تاكسي يركبنها ولم يسلم السائق المسكين من أذى رب الأسرة بل حل به عقاب أليم.
وبلغ من صفاقة نجلي أحد الوزراء حينها أن اغتصبا السيارة الحكومية من السائق، واستخدامها في رحلة كلها متاع وعبث. ورأى السائق أن يفشي السر إلى الوزير خوفاً على نفسه، فكان جواب الوزير أن قال: "خليهم يفرحوا بشبابهم."
في تلك الفترة زكمت رائحة السيارات الحكومية الأنوف، فاضطرت الحكومة إلى تشكيل لجنة لمعالجة الأمر. وكان قرار اللجنة غريباً حيث قررت سحب السيارات من وكلاء الوزارات ومساعديهم وصرف أربعين جنيها كبدل ركوب شهري لكل وكيل و35 جنيها لكل مساعد، ثم تقدير أثمان تلك السيارات وعددها 60 سيارة وبيعها لمستخدميها السابقين بالتقسيط أي أن الحكومة منحت مسئوليها سيارات حكومية وبدلات شهرية دائمة. واتفقت اللجنة على تمييز نوعيات معينة من السيارات الحكومية كسيارات المدارس والبريد بعلامة تميزها عن السيارات الأهلية بالإضافة إلى أرقامها المنقوش بجانبها كلمة حكومة.
رغم أن أسطول الحكومة المصرية من السيارات خلال النصف الأول من القرن الماضي كان محدودا جدا بحجم هذا الأسطول في الوقت الحالي فقد كان مثالا لإهدار المال العام. وقد بلغ حجم هذا الأسطول بضعة آلاف من السيارات. الملاحظ أنه عندما إنتشر التسيب في العقود الماضية إتخذت الحكومة العديد من الإجراءات بهدف القضاء على هذا التسيب و كان هناك جهازا خاصا يسمى جهاز مراقبة السيارات الحكومية يتولى تحديد الخلل ويصدر الأوامر التي تهدف للقضاء على هذا الخلل. ورغم أن تلك الجهود بدأت في الظهور خلال الأعوام الأخيرة من حكم الملك فاروق غير أنها بدت أكثر وضوحا وقوة خلال الأشهر الأولى التي أعقبت ثورة يوليو حيث أصدر رئيس الوزراء على ماهر قرارا بسحب سيارات الوزراء دون منحهم مليما واحدا اسوة بما هو متبع في معظم دول العالم بحسب وصف مجلة الموتور.
وفي الوقت ذاته أمر اللواء محمد نجيب القائد العام للقوات المسلحة و أول رئيس مصري بعد زوال الحكم الملكي بسحب السيارات الفاخرة التي كان قادة الجيش المصري يستخدمونها في تنقلاتهم و الإكتفاء بإستخدام السيارات العادية و الجيب كما هو متبع في معظم جيوش العالم. وتقول المجلة أن نجيب إتخذ هذا القرار عندما ذهل من النفقات الباهظة التي تتحملها ميزانية الجيش مقابل الترف والأبهة التي يغرق فيها بعض كبار الضباط خلال فترة حكم فاروق. هذا القرار أدى لتوفير 30 ألف جنيه قيمة سيارات الوزراء وتكاليف صيانة تلك السيارات كما تذكر أن القرار ترتب عليه عدم منح الوزراء بدل إنتقال ولكن يمنح وكلاء الوزارات بدلا شهريا يقدر بنحو 50 جنيها شهريا وهو أمر رحب به أكثرهم باعتباره إعانة غلاء جديدة. وداخل الدوائر الحكومية تردد أن القرار كان تمهيدا لسحب جميع السيارات الحكومية من وكلاء الوزارات و مديري العموم وسائر كبار موظفي الدولة و لكن يستثنى من ذلك بعض الهيئات الحكومية ومنها الشرطة والنيابة والري خاصة في المناطق النائية التي لا تتوافر بها وسائل للمواصلات المريحة بحسب طبيعة عملهم.
وفي الوقت ذاته كانت النية تتجه أوائل عام 1953 للتوسع الحكومي في إستخدام الموتوسيكلات بديلا عن السيارات لتوفير جانب كبير من النفقات الباهظة التي تتحملها الدولة سنويا. و بدأت الحكومة خلال تلك الفترة فرض رقابة صارمة على عمليات صرف البنزين للسيارات الحكومية حيث تبين من التحقيقات أن تلك العملية تتم بدون أي ضوابط و هو ما تسبب في الكثير من الفساد والتلاعب في الكميات التي يتم صرفها لسيارات المسئولين.
وأفادت اللجنة المشكلة من وكيل وزارة المواصلات واللواء أحمد شاكر مدير مصلحة النقل بالوزارة بأن النظام الجديد أدى لتوفير ما يقرب من مليوني جنيه سنويا على ميزانية الدولة و كان مبلغا ضخماً فى تلك الفترة.
الطريف في الأمر أن النظام الجديد لمراقبة السيارات الحكومية كان يتطلب تركيب عداد في سيارة كل مسئول لحساب المسافات التي تقطعها تلك السيارة وكميات البنزين التي تستهلكها وكان للمسئولين كل الحق في ذلك بعد أن تبين أن الكثير من تلك السيارات كانت تستخدم في أغراض غير تلك التي خصصت لها خاصة وأنه كان لدى الحكومة 500 سيارة ركوب تحمل أرقاما خاصة وكانت تلك السيارات تستخدم بطبيعة الحال في مهام غير حكومية وبمعنى دقيق "مهام منزلية و ترفيهية" لأسر المسئولين وهو ما يحدث اليوم على نطاق واسع. فالتحقيقات تفيد بأن بأن الكثير من تلك السيارات الحكومية شوهدت عند ملاعب الكرة أوقات المباريات كما شوهدت الكثير من زوجات المسئولين داخل تلك السيارات ولهذا صدر قرار بمنع النساء من ركوب السيارات الحكومية المخصصة لأزواجهن وإنطبق نفس الأمر على سيارات الجيش التي ترددت تقارير تفيد بأن الكثير منها يستخدم في الأغراض الشخصية البحتة وهو أمر نادر الحدوث في يومنا هذا كما تبين أن وكيل إحدى الوزارات كان يستخدم ست سيارات حكومية في وقت واحد.