استقل الأرشيدوق "فرانز فرديناند" وريث عرش النمسا وزوجته "صوفي" القطار صباح الثامن والعشرين من يوليو، متجهين إلى العاصمة البوسنية، وقد استقبلهما على محطة القطار محافظ سراييفو مع ست سيارات رياضية مكشوفة تحمل علامة "جراف&شفت Gräf & Stift" النمساوية، استقل الأرشيدوق وزوجته الثالثة منها وتحرك الموكب، لتسقط على سيارتهما فجأة قنبلة سرعان ما ارتدّت على السقف المطوي في المؤخرة، لتسقط تحت السيارة الرابعة في الموكب وتنفجر مصيبة راكبيها بجراح بالغة، وتفشل أولى محاولات اغتيال الأرشيدوق وزوجته، فقط ليستقبلهما الطالب الصربي "جافريلو برينسيب" في تمام الساعة 10:45 صباحًا أمام نفس السيارة برصاصتين، أصابت أولاهما حبل الوريد في عنق الأرشيدوق، واستقرت الأخرى في بطن زوجته لتتوفي هي أولاً ويتوفي بعدها بعشر دقائق، وليتحول الحادث إلى أزمة دبلوماسية استدعت إعلان النمسا الحرب على صربيا في الثامن والعشرين من يوليو عام 1914، لتكون تلك شرارة اندلاع الحرب العالمية الأولى، أسوأ الحروب في تاريخ البشرية على الإطلاق!
تعلم الرؤساء الدرس الصعب بعد اغتيال الرئيس الأمريكي جون كينيدي عام 1963 وهو يستقل سيارته المكشوفة، وأدركوا أن عليهم أن يبحثوا عن طريقة تجعلهم يتنقلون بسيارات تبدو عادية المظهر؛ لكيلا تتهمهم شعوبهم بالجبن أو يتهمهم أعداؤهم بالخوف من تلك الشعوب، لكنها مصفحة بما يمنع أن يصبح مصيرهم كمصير كينيدي.. فكيف فعلوها؟ هذا ما سنعرفه عبر السطور التالية..
-الزجاج المضاد للرصاص
انتهى عصر الرئيس الذي يجلس –أو يقف- داخل سيارة مكشوفة يلوح منها للجماهير المصطفة على الجانبين، بينما يعد القناص بندقيته للتصويب على رأسه أو عنقه، وصار الرؤساء يجلسون داخل سيارات مغطاة تبدو بريئة المظهر، لكنها بالطبع مصفحة، ولأن القناصة منفذي عمليات الاغتيال يواكبون تطور العصر، فقد صاروا يصوبون رصاص بنادقهم على النقاط الأضعف في أية سيارة، وهي الزجاج، الإطارات وخزان الوقود، فأصبحت النوافذ أول المناطق المهددة بالتناثر حين تخترقها رصاصة تواصل طريقها إلى رأس الجالس خلف الزجاج، لذلك كان اللجوء إلى تحويل الزجاج العادي إلى زجاج مضاد للرصاص هو التدبير المنطقي الأول، لكن بشرط أن يبدو في مظهره كالزجاج غير المصفح بالضبط؛ لكيلا يؤثر على قدرة الجماهير على رؤية الرئيس الجالس في الداخل والعكس..
تتم صناعة الزجاج المضاد للرصاص من طبقات متتالية مغلفة معًا من الزجاج، البولي كربونات -وهي مادة شفافة خفيفة الوزن تتمتع بقدرة عالية على مقاومة الصدمات والحرارة، كما إنها ضد الكسر وعازلة للصوت والحرارة والكهرباء- والبلاستيك، وحين تصيب رصاصة طبقة الزجاج الخارجية تتخطاها إلى طبقة البولي كربونات، التي تتمتع بالمرونة اللازمة لتبديد طاقة اندفاع الرصاصة فتبطئ حركتها، لتتوقف قبل أن تبلغ المقصورة، ولا يتأثر الزجاج إلا بدائرة صغيرة مهشمة حول نقطة دخول الرصاصة، لكنها دائرة لا تؤثر على تماسك النافذة.. ويعتمد سُمك تلك الطبقات على التهديد المتوقع، فطبقات تمنع نفاذ رصاصة منطلقة من مسدس صغير تقل عن تلك المنطلقة من مدافع رشاشة وبنادق وما هو أقوى، وسيارة الرئيس الأمريكي على سبيل المثال –وهي كاديلاك ملقبة بـ"الوحش"- يبلغ سُمك نوافذها 15 سنتيمترًا..
ورغم إن الزجاج المضاد للرصاص بشكل عام يمنع وصول الرصاصات من جهة إلى الجهة الأخرى منه، إلا أن هناك أنواعًا تكون أحادية الاتجاه، حيث تمنع الرصاص من الدخول لكنها لا تمنع خروجه من داخل المقصورة؛ ليمتلك الجالسون داخلها القدرة على تصفية الأعداء الموجودين بالخارج بينما هم في مأمن.
-دروع واقية لهيكل السيارة
حين تتناثر الرصاصات لا تترك مكانًا في السيارة دون أن تصيبه، وإذا كانت النوافذ مصفحة ضد الرصاص، فماذا عن الجسم نفسه؟ هذا هو الجزء الثاني الذي تمتد له أيدي الخبراء بالتحصين، ولسبب لا أدريه يتبادر الصلب دومًا إلى الأذهان عند الحديث عن "دروع واقية".. هل لأنه ظل لفترة طويلة العنصر الأساسي في صنع الأسلحة القديمة والدروع الواقية؟ ربما، لكن العلم يتطور كما نعلم، وأصبحت الاستعانة بألواح من الصلب فقط فكرة تقليدية، أصبح جسم السيارة نفسه يُصنع من مزيج من الحديد والألومنيوم، ويتم تدعيمه بمزيج من التيتانيوم والسيراميك.. أما الأبواب فيتم تدعيمها بطبقات من الصلب الواقي من الرصاص، ويصل سُمك تلك الطبقات أحيانًا إلى 20 سنتيمترًا.
-حماية الأرضية وخزان الوقود
لا شك أنك عزيزي القارئ قد شاهدت الكثير من الأفلام السينمائية التي تتقاذف فيها القنابل وتتدحرج لتسقط تحت السيارة، وتنفجر محولةً إياها إلى شظايا ومطيحةً بمن فيها وحولها، والحقيقة أن تلك الأفلام ليست بعيدة عما يحدث في عالم الواقع، حيث تبقى القنابل خيارًا ممتازًا لإحداث ارتباك في موكب الحراسة، لتتم عملية اغتيال الرئيس بنجاح، وهو نفس ما حدث تمامًا في حادثة اغتيال أرشيدوق النمسا التي تحدثنا عنها في البداية، حيث كانت القنابل الخيار المنطقي للقضاء عليه وزوجته بضربة واحدة من مسافة بعيدة، ولذلك يتم تحصين أرضية سيارات الرؤساء بطبقات من ألواح النايلون الباليستي "Ballistic Nylon"، وهو نسيج نايلون صناعي يتميز بكونه سميكًا وقويًا وخفيف الوزن بحيث يمكن أن يُضاف تحت المقاعد وسجاد الأرضيات، ويمتص تأثير الانفجارات والشظايا، كما تتم إضافة ألواح من الصلب بسُمك 12 سنتيمترًا تحت جسم السيارة لزيادة التحصين..
ولأن خزان الوقود يعد نقطة ضعف هامة في أية سيارة، فعادةً ما يحاول المكلفون بتنفيذ الاغتيالات التصويب عليه وإصابته لتنفجر السيارة، ولذلك تتم إضافة نفس الطبقات المصنوعة من النايلون الباليستي حوله، ومهمتها ليست فقط حمايته من الرصاص، بل كذلك منع تدفق البنزين منه في حال حدوث انفجار لأي سبب، كما تتم إضافة رغوة خاصة إلى الوقود نفسه في بعض الطرازات؛ لتمنعه من الاشتعال حتى لو وُجهت إليه نيران مباشرة، وهو ما يحدث في سيارة الرئيس الأمريكي التي سنتحدث عنها في مرات لاحقة بمزيد من التفصيل بإذن الله..
تبقى النتيجة المتوقعة لكل تلك التحصينات هي ازدياد وزن السيارة، مما يجعل قيادتها والهروب بها بسرعة من موقع الخطر أمرًا صعبًا، لذلك تمت مواجهة هذا بتعزيز نظام التعليق والفرامل، بالإضافة لتزويد الإطارات بأضلاع حديدية خاصة بحيث يمكنها الانطلاق وهي فارغة تمامًا من الهواء لمسافة تصل إلى 100 كم.
-تجهيزات داخلية
رغم تركز التحصين في جسم السيارة وأجزائها الخارجية –ربما باستثناء طبقات النايلون الباليستي في الأرضية، فإن التكنولوجيا الحديثة لم تترك المقصورة دون أن تضع لمساتها عليها، حيث نجد أن سيارات الرؤساء مجهزة بكاميرات للرؤية الليلية تعمل بالأشعة تحت الحمراء؛ ليمكنها اختراق الظلام دون أن تنحرف عن مسارها، فتتمكن من الهرب من أية مخاطر محيطة، وليتمكن قائدها من الرؤية حتى وسط الأدخنة التي قد تنجم عن انفجار قنابل خارجية..
أما النوافذ المكونة من طبقات متعددة من الألواح الواقية من الرصاص، فهي مصممة كذلك بحيث لا تُفتح أبدًا –باستثناء نافذة السائق، ويكتفي الرئيس بالتلويح من خلف زجاجها، كما يتم طلاؤها بمادة خاصة شفافة تحميها من أية مركبات كيميائية قد تُطلق عليها لتؤثر في صمودها.
-----
حربٌ طويلة استمرت قرابة أربعة أعوام وخلفت ملايين القتلى، كان من الممكن أن ينتفي سببها لو أن أرشيدوق النمسا كان يستقل سيارة مصفحة، كتلك التي تعلم الرؤساء بعد اغتيال الرئيس الأمريكي كينيدي عام 1963 في سيارته المكشوفة أن يتنقلوا بها، حتى إن حراس الرئيس الأمريكي ريجان لم يجدوا مكانًا أكثر أمانًا من سيارته المصفحة ليدفعوه داخلها، أثناء محاولة اغتياله عام 1981، لتصبح سيارات الرؤساء الفخمة كحصون تمشي على أربع، يحاولون بها أن يتجنبوا مصيرًا سيئًا لاقاه البعض قبلهم على أيدي مهووسين ظنوا أن الاغتيال قد يكون وسيلةً للحل، ولم يعلموا أن الدم لا يجلب إلا المزيد منه.. وما زال العلم والتكنولوجيا يتطوران فيستفيد منهما الطرفان، طرف القادة وطرف الراغبين في التخلص منهم، ويبدو أن السباق سيظل دائرًا طويلاً دون أن يربحه طرف بشكل نهائي.