السيارات ذاتية القيادة، حلم طالما حَلُم به صناع السيارات القدامى، وقدمته الأفلام السينمائية التي تنتمي لفئة الخيال العلمي، وطالما تخيلناه نحن في طفولتنا ولهونا، غير إن الحلم اليوم لم يعد حلمًا، ولا الفكرة محض مشاهد نسجها خيال مؤلف جامح يحاول تخطي مساحات الزمن ليتصور ما سيكون، فالسيارات ذاتية القيادة أصبحت واقعًا، صحيح أنه ما زال محدود الانتشار والاستخدام، لكنه حقيقة تنبئ بالانتشار.. لكن مع كل هذا التفاؤل وهذه الحماسة، تطالعنا أصوات تطالبنا بالتريث، وتطرح أسئلة هامة حول المشاكل التي قد تواجه تطبيق الفكرة عمليًا، بل وحول جدوى الفكرة من الأساس.. في السطور القادمة عزيزي القارئ سنستعرض تلك النقاشات حول ما هو ممكن وما هو مستحيل في السيارات ذاتية القيادة..
التكنولوجيا تتحدث
بالطبع عندما نتكلم عن هذا النوع من السيارات، فصوت التكنولوجيا سيكون هو الأعلى بين كل الأصوات، فكل شيء في تلك الطرازات سيكون مرتبطًا بالتكنولوجيا الحديثة؛ الكاميرات، المستشعرات، تطبيقات قراءة الخرائط، كاشفات العوائق الليزرية، وبالطبع كمبيوتر السيارة الذي يقوم بتحليل المعلومات التي تأتيه من كل تلك المنافذ، ليعطي للسيارة الأمر الصحيح في الوقت الصحيح، لكن ماذا لو قررت التكنولوجيا أن تتصرف وفق هواها؟ إنه السؤال الذي يطرحه المتشككون في قدرة التكنولوجيا الدائمة على التصرف بحكمة، فمهما بلغت دقة تلك الأشياء، فهي تدخل تحت مسمى الآلات، ولكل آلة أخطاؤها، والخطأ هنا قد يودي بحياة عشرات الأشخاص..
إذا توغلنا أكثر مع التكنولوجيا سنجد أن الأمر أكثر تعقيدًا؛ فكل تلك الأشياء التي تعتمد عليها السيارة ذاتية القيادة للرؤية أو الاستشعار أو تجنب التصادم مرتبطة ببرامج كمبيوتر، أو ما نطلق عليه "سوفت وير"، وكما تعلم عزيزي القارئ أن لكل سوفت وير صيغة تحريرية خاصة في كتابته تسمى "سورس كود Source code"، وتعتبر شيفرة تعريفية غير متاح لأي من مستخدمي النظام أو المتعاملين معه التعرف عليها.. وهنا يبرز السؤال الهام: كيف يمكننا أن نحدد المسؤولية القانونية مثلاً عن أي حادث، إذا كان لا يوجد سبيل لفحص كفاءة عمل السوفت وير دون موافقة ومساعدة الشركة المصنعة، والتي ستكون في أي حادث ضمن قائمة المتهمين؟ الأمر سيكون أشبه بأن تكون الشركات المصنعة لتلك البرامج بمثابة الخصم والحكم في نفس الوقت!
على جانب آخر فالعمليات التكنولوجية التي تتم داخل نظم السيارة أثناء سيرها تعتمد بشكل كبير على تقنيات الاتصالات، لتحديد الاتجاهات والأماكن وقراءة الخرائط، وما إلى ذلك من مهام ضرورية، فما هو الحال إذا تم اختراق شبكات الاتصال تلك –وهو أمر ليس بالعسير- وقام أحد المخربين من الأفراد أو المنظمات بالعبث في تلك البيانات للتضليل، أو لأهداف أخطر بكثير من مجرد التضليل؟ إن هذا الاختراق في هذه الحالة سيجعل المخترق يستطيع التحكم في السيارة كما يشاء، لتتحول إلى لعبة في يده.. أو ربما سلاح قاتل.
وجهٌ جديدٌ للطرق
إذا كان ما سبق مخاطر تتعلق بالسيارة، فهناك أيضًا صعوبات كبيرة تواجه الطرق لتصبح متناسبة مع سير السيارات ذاتية القيادة عليها، أولها أن نمط المرور سيتغير كليًا تقريبًا؛ فالنمط الحالي يعتمد على أفعال وردود أفعال بشرية، بأدوات يمكن أن يعيها البشر ويفسروها بسهولة، أما في حالة انتشار ذلك النوع من السيارات، فتخطيط الشوارع لا بد أن يصبح أكثر تحديدًا من حيث اتجاهات السير، وأماكن الانتظار لا بد أنه سيتم تعديلها لتسمح بسيولة أكبر للسيارات التي لن تكون في استطاعتها الحركة في الأماكن الضيقة جدًا- بعكس ما يفعل الإنسان، أيضًا وسائل الأمان وتحديد الرؤية على الطريق لا بد أنها ستتغير لتتوافق مع النمط الآلي للطرازات الجديدة.
شركات التأمين
بالطبع لا توجد وسائل للنقل دون حوادث، سواء كان يقودها بشر أو كمبيوتر، ولكل حادث في عالم السيارات ثلاثة أطراف أساسيين، طرفا الحادث وشركة التأمين، إنه الثالوث المتصارع دائمًا لإثبات الخطأ، وإذا كانت الدعاوى القضائية وقضايا تعويضات الحوادث هي أكبر شاهد على هذا الصراع، فمن المتوقع أن تزداد النزاعات حدةً مع الطرازات ذاتية القيادة؛ حيث تضيع المسؤولية بشكل كبير وتتمزق بين صاحب السيارة والشركة المصنعة.. وعلى الرغم من إن الدراسات التي أجراها معهد سلامة الطرق السريعة على السيارات ذاتية القيادة خلال ثلاث سنوات تؤكد أن الحوادث يمكن أن تقل بنسبة الثلث، إلا أن المشاكل القانونية التي قد تنجم عن أي حادث جعلت كثيرًا من شركات التأمين تحجم عن منح هذه النوعيات من السيارات عقودًا للتأمين، وحتى الشركات التي قبلت أن تخوض غمار التجربة قامت بإضافة بنود أقل ما يقال عنها إنها مجحفة في حق المستفيدين من تلك العقود.
المالكون
على صعيد آخر لا يجب أن نغفل عاملاً هامًا من العوامل التي ستؤثر على انتشار طرازات السيارات ذاتية القيادة، هو العامل النفسي، فالتساؤل الذي سيطرح نفسه على من يفكر في شراء هذا النوع من السيارات هو: "هل أنا على استعداد للقيام بهذا حقًا؟".. قد يكون لبعض الاشخاص رأي إيجابي في تجربة الانتقال في سيارة ذاتية القيادة، لكن هذا الرأي يظل خاضعًا لنمط تجربة المخاطرة، التي تشبه تجربة ركوب القطار السريع في مدن الملاهي، غير إن تحول هذه التجربة لنمط حياة يومي ربما يكون تقبل المستهلكين له أكثر صعوبة؛ فقطار الألعاب السريع الذي ركبته مرة لن تقبل أن يقلك كل يوم إلى عملك، وروحك التي تركتها طائعًا في يد التكنولوجيا لبضع دقائق بهدف المتعة والمرح "Just for Fun"، سيكون من العصي عليك جدًا أن تقنع عقلك بتركها لساعات كل يوم في أيدي تكنولوجيا أكثر تعقيدًا و-ربما- أقل أمانًا.
توقعات
يذكر "معهد بيانات حوادث الطرق السريعة Highway Loss Data Institute"، أن تقنية القيادة الذاتية موجودة بالفعل في بعض طرازات السيارات الحالية كنمط اختياري، وقد ظهرت بدايةً من عام 2013 بعد صدور قانون يسمح بسير السيارات وفق هذا النمط في الطرق العادية، في ولايات مثل ميتشجان، فلوريدا، كاليفورنيا، ونيفادا، غير إن المعهد يؤكد أن عمليات التطوير ما زالت تحتاج إلى ثلاثة عقود على الأقل، حتى يكون لهذه الأنواع من السيارات الغلبة في الأسواق العالمية، حيث إن تقديرات المعهد تشير إلى أن الوصول لهذا الهدف لن يكون قبل عام 2049، أما تقديرات مركز أبحاث النقل في جامعة مينيسوتا، فتذكر أنه بحلول عام 2030 سيكون أغلب السيارات على الطرق متاح به نمط القيادة الذاتية، لكن حتى تلك التكهنات المتفائلة لم تغفل المخاطر التقنية والقانونية والنفسية التي تواجه عمليات التطوير تلك.
-------
لكن عزيزي القارئ، إذا كانت سيطرة السيارات ذاتية القيادة على الطرق لن تصبح واقعًا على أقرب تقدير قبل عام 2049، كما تذكر الأبحاث والتوقعات، فهل ستكون السيارات ما زالت هي وسيلة النقل الشائعة بين الناس حتى ذاك الوقت؟ خاصةً في زمن كثر فيه الحديث عن وسائل نقل طائرة، تستخدم السماء طرقًا بديلة عن شوارع مدننا المزدحمة؟ فهل ستكون لتقنيات القيادة الذاتية أهمية إذا اختفت أصلاً أهمية السيارات؟ أم أن كل ما أُنفق على تلك الأبحاث سيضيع هباءً منثورًا، وتتحول النقاشات إلى الجدل حول وسائل نقل أخرى أكثر طموحًا؟