على مدار تجربة فى مجال تجميع وتصنيع السيارات والتى تصل إلى حوالي 85 عاماً، يمكن أن نلخص إلى نتيجة مؤداها أن النتائج لم تكن فى وقت من الأوقات على مستوى التوقعات. فمنذ ثلاثينيات القرن الماضي وإلى يومنا هذا لم تتمكن مصر من وضع خطط مدروسة تؤسس لصناعة سيارات قوية رغم أن الفرص كانت مواتية لأكثر من مرة .. ولكنها العشوائية فى القرارات هي من تسببت فيما وصلنا إليه اليوم. والواقع يشير إلى أن أمتلاك سيارة بات اليوم أكبر من قدرات الغالبية الساحقة من المصريين وذلك بسبب ضعف الإنتاج المحلي واعتماد السوق على التصدير لسد نصف احتياجاته، وهو أمر يبدو غريباً فى دولة عرفت تلك الصناعة قبل غيرها من دول المنطقة بعشرات السنين.
السبب هو أننا لم نبن على ما حققناه من إنجازات فى السابق، ففي الثلاثينيات جاءت فورد إلى مصر لمنافسة غريمها التقليدي جنرال موتورز التى سبقتها وأسست شركة "جنرال موتورز الشرق الأدنى" فى الإسكندرية، وكانت تلك الشركة بمثابة الفرع الإقليمي للصانع الأمريكي العملاق فى المنطقة ومكان مسئولاً عن مبيعات علامات جنرال موتورز فى مصر والشرق الأوسط وشمال وشرق أفريقيا. ردت فورد على ذلك بإنشاء شركة فورد مصر للسيارات فى الإسكندرية، ولم تكتف بالأعمال التجارية بل افتتحت مصنعاً فى الثلاثينيات وقامت بتوسيعه عام 1950. حينها كانت الإسكندرية مؤهلة لأن تكون مركزاً لتجارة وصناعة السيارات ليس فى مصر فحسب بل فى منطقة جغرافية شاسعة تمتد من إيران شرقاً إلى المغرب غرباً مارة بشرق أفريقياً. ولكن للأسف بدأت البوصلة تتحول عن مصر إلى بيروت ثم إلى دبي حيث صارت موطناً لأغلب المراكز الإقليمية لشركات السيارات الكبرى. والسبب فى ذلك هو أننا لم نضع إستراتيجية حقيقية نحدد فيها ماذا نريد.
وحتى عندما أنشأنا شركة النصر لصناعة السيارات، تمكنت تلك الشركة فى الستينيات من تحقيق نجاحات فى مجال تصنيع سيارات الركوب والنقل والأتوبيسات، بل قامت بتصدير بعض منتجاتها من الأتوبيسات إلى العراق والكويت وليبيا، ولكن تدخلت السياسة مرة أخرى – بقصد أو بدون قصد – لإفساح المجال لجنرال موتورز وغيرها من الشركات لإنشاء مصانع لها فى مصر على حساب شركة النصر إلى أن أختفت تماماً اليوم ولم يبق منها غير الإسم. وحتى تلك التجربة التى تمكنت من الوصول لنسبة تصنيع محلي تبدو اليوم حلماً صعب المنال، لم تكن إيجابية على طول الخط،بل شهدت سلبيات سوء تخطيط زاد من سوء أوضاعها وأوصلها إلى مصيرها المحتوم.
أما تصنيع – أو بعبارة أدق تجميع - السيارات فى مصر اليوم فلم تأت تجربتها على مستوى الطموحات ومن يتشكك فى ذلك يعود للأرقام الخاصة بحجم الإنتاج المحلي على مدار الأعوام الماضية وهو إنتاج يعتمد على تجميع سيارات تأتي أغلب أجزائها مفككة من الخارج دون تصنيع حقيقي إلا لبعض الأجزاء التى تعد فى أغلبها هامشية.
المأساة أننا لعشرات السنين لم نسع لإنشاء صناعة سيارات وطنية حتى إن لم يكن هدفها هو تصنيع سيارة مصرية مائة بالمائة، ورغم أن تلك الجملة الأخيرة وجدناها فى مانشيتات عديدة إلا أنها كانت مجرد تضليل وضحك على الذقون لأن فكرة تصنيع سيارة من الألف إلى اليأء تبدو خيالية بعض الشيء، فحتى الشركات الكبرى لتصنيع سياراتها بالكامل داخل مصانعها بل تعتمد على سلسلة من الموردين، ولم يكن مقصوداً من تلك الجملة التى سمعناها تتردد من حين لأخر سوى الإستهلاك المحلي ودغدغة مشاعر الناس .. أما النتيجة فهي أن السيارة باتت اليوم بالنسبة لأغلب المصريين حلماً بعيد المنال، حتى أن البعض اليوم بات يجري وراء سراب أن أسعار السيارات الأوروبية ستنخفض إلى النصف بمجرد دخول اتفاقية الشراكة الأوروبية حيز التنفيذ.
سبب ما نحن فيه يا سادة لا يرجع لعامل واحد بل أوجه قصور عديدة يمكن إيجازها فى النقاط التالية:
-لم تهتم الحكومات المتعاقبة سوى بالتجميع وليس التصنيع والفارق بينهما كبير.
-أغفلنا حكومة وشركات مجال التصميم فلم تخرج كلياتنا كوادر أو تنشئ أقساماً لتصميم السيارات أو تشجع على إنشاء شركات متخصصة فى هذا المجال، كما أن الشركات العالمية كنيسان وجنرال موتورز وجيب لم تفكر يوماً ما فى إنشاء أستديوهات للتصميم فى مصر ولو كأستديوهات إقليمية لمنطقة الشرق الأوسط وأفريقيا على غرار استديوهاتها الإقليمية فى مناطق أسيا وأمريكا الشمالية وأوروبا.
-رغم أن صناعة مكونات السيارات فى مصر جيدة وتقوم بالتصدير إلا أننا لم نشجع على التوسع فيها ولم تقم الحكومة بشكل جدي بفتح المزيد من الأسواق لتلك الشركات.
-لم نسمع يوماً ما أن شركة عالمية قررت فتح مراكز للأبحاث والتطوير R&D فى مصر رغم أن تلك المراكز هي الأساس الحقيقي لصناعة السيارات.
-لم تساعد الحكومة شركات السيارات من خلال اتفاقيات التجارة الحرة التى تدخل فيها مصر مع كيانات ودول عديدة على التصدير رغم ما يحققه ذلك من فوائد عديدة منها زيادة الموارد من العملات الصعبة وتشجيع شركات السيارات على التصنيع فى مصر وقيام الشركات الموجودة بالفعل بتوسيع مصانعها الحالية، حتى بات واضحاً أن الهدف من صناعة السيارات فى مصر هو السوق المحلي فقط وهو سوق لا يكفي كي نؤسس لصناعة سيارات حقيقية
-عندما فكرنا فى أستراتيجية لصناعة السيارات، بدت فى ملامحها الأساسية وكأنها وضعت مصالح أشخاص على حساب المصلحة العامة.
-رغم الأدوار الإجتماعية التى تقوم بها بعض الشركات، لم نسمع عن شركة سيارات محلية تبنت مصمماً أو مبتكراً أو قامت بتنظيم مسابقة للتصميمات أو لأفضل الأبحاث والأبتكارات فى مجال السيارات، بل أكتفينا كمجتمع وإعلام بمسابقات الفنون.
-لم تهتم مدارسنا بتخريج كوادر مؤهلة للعمل فى مصانع السيارات وهو أمر حيوي لقيام صناعة حقيقية.
قد يعتبر البعض أن الوقت قد فات وأن دولاَ أخرى فى المنطقة سبقتنا فى مجال التصنيع والتقنيات مثل المغرب وتركيا وحتى إسرائيل، ولكن الواقع أن هناك أملاً فى أن تنهض صناعة السيارات فى مصر وأن تحقق طفرات .. فقط إن خلصت النوايا وقمنا بسد الثغرات وحددنا بدقة ما نريد وكيف نحقق ما نريد.