منذ أكثر من 90 عاماً، بدأت مصر أولى خطوات تجميع المركبات من خلال قيام شركة فيات أورينت بتجميع بعض الأتوبيسات فى الإسكندرية بمكون محلي تمثل فى مقاعد وهياكل تلك الأتوبيسات. وفى أوائل الثلاثينيات، أعلنت فورد عن نيتها إنشاء مصنع لها فى الإسكندرية وحدث ذلك بالفعل وتم توسيع المصنع عام 1950، بينما قامت جنرال موتورز بإنشاء مصنع صغير قام بتجميع بعض شاحنات شيفروليه أثناء فترة الحرب العالمية الثانية. وبعد ثورة يوليو أتخذ الرئيس الراحل جمال عبد الناصر قراراً بإنشاء مصنع النصر للسيارات وبعدها أعلن جورج حاوي عن تصنيع السيارة رمسيس فى مصر، وبدا للجميع خلال الفترة بين عامي 1930 و1960 أن مصر ستكون فى المستقبل إحدى كبريات الدول فى عالم صناعة السيارات، ولكن لم يحدث ذلك بل صرنا اليوم فى ذيل القائمة بعد أن سبقتنا دولاً كثيراً بدأت بعدنا بسنوات ومنها كوريا والصين وتركيا وكل دول جنوب آسيا، فما الذي حدث.
فى النصف الأول من القرن الماضي، كان بمصر شركة جنرال موتورز الشرق الأدنى وكانت مسئولة عن مبيعات الصانع الأمريكي العملاق فى كافة دول الشرق الأوسط وكان لدينا فيات أورينت المسئولة عن مبيعات فيات فى المنطقة، كما كان لدينا شركة فورد مصر المساهمة المسئولة عن عمليات التجميع والمبيعات لفورد فى 22 دولة شملت المنطقة العربية بالكامل بالإضافة إلى شرق أفريقيا وبعض أجزاء من آسيا وبضعة دول أوروبية. ولو سارت مصر بنفس الخطوات التى بدأتها لكانت اليوم تصدر السيارات لكافة دول أفريقيا والشرق الأوسط، ولكن مشكلتنا يا سادة أننا لا نبني على إنجازاتنا السابقة. ففى عام 1958 خرجت جنرال موتورز من مصر وأغلقت شركتها التي صارت فيما بعد جنرال موتورز الشرق الأوسط التي تأسست في دبي عام 1979 وتم دمج عمليات جنرال موتورز فى أفريقيا والتى اتخذت من القاهرة مقراً لها فى تلك الشركة منذ ثلاثة أعوام، بينما أغلقت فورد مصنعها فى الإسكندرية عام 1966 نتيجة خلاف مع نظام عبد الناصر. وحتى النصر للسيارات، أغلقت أبوابها وصارت أثراُ بعد عين بعد أن كانت فى مرحلة ما تقوم بتصنيع أغلب مكونات السيارات محلياً، كما أختفت شركة رمسيس. وظهرت شركات أخرى مثل جنرال موتورز مصر ونيسان وغبور و البافارية والشركة العربية الأمريكية للسيارات والأمل لتصنيع السيارات وغيرها من الشركات التى قامت بالتجميع ولكن إجمالي ما تقوم تلك الشركات بتجميعه لا يتجاوز ما يقوم مصنع متوسط الحجم فى دول أخرى بتجميعه.. فلماذا فشلنا فيما تمكن الآخرون من تحقيقه.. الإجابة ببساطة هي أننا لم نمتلك الرؤية لتدعيم تلك الصناعة طيلة تلك السنوات ولك نضع نصب أعيننا النهوض بتلك الصناعة .. لم نمتلك الرؤية فصرنا نعمل كجزر منعزلة فتاهت تلك الصناعة واكتفى البعض بتصنيع بضعة آلاف، بينما أنتجت دولاُ منافسة لنا الملايين بل باتت تصدر إلينا منتجاتها بينما اكتفينا بدور المتفرجين. فتركيا على سبيل المثال وصل إنتاجها من المركبات والسيارات إلى مليون سيارة ومركبة فى 2012 من خلال 20 شركة تقريباً، أما الجزائر فتدخل صناعة السيارات بقوة و ستنتج قرابة نصف مليون سيارة سنوياً خلال ثلاث سنوات وتخطط لتصدير الكثير منها للشرق الأوسط وأفريقيا. أما المغرب فتسعى للوصول بإنتاجها من السيارات إلى مليون وحدة سنوياً بحلول عام 2020 والدخول إلى عالم تصنيع المحركات أيضاً.
وقبل أن يتطرق البعض لنظريات المؤامرة، علينا أن نتأكد أن العيب فينا منذ قديم الأزل، ففي عام 1979، أعلنت فولكس فاجن عن نيتها إنشاء مصنع لها فى الجيزة لإنتاج السيارات ثم تراجعت فيما بعد دون إبداء الأسباب، وقبلها بعامين أقامت فورد أحتفالاُ لإعادة تشغيل مصنعها المتوقف منذ عام 1966 وكرمت قدامي العاملين فى المصنع وأكدت أن المصنع سيقوم بإنتاج محركات الديزل ثم تراجعت. وفى يونيو 2016 أعلنت وزارة التجارة والصناعة أن بيجو تدرس إنشاء مصنع لتجميع السيارات فى مصر ثم تراجعت عن ذلك، وفى مايو عام 2015 أعلنت فورد أنها تدرس تجميع سياراتها فى مصر بل فى مايو الماضي، ترددت أنباء عن زيارة وفد فرنسي من رينو لعدد من مصانع تجميع السيارات لبحث تجميع عدد من موديلاتها هنا ثم أنتهى الأمر عند هذا الحد. فلماذا تتجنب شركات السيارات الكبرى الاستثمار فى مصر .. السبب ببساطة هو أننا لا نقدم ما يجذب هؤلاء لضخ تلك المليارات رغم ضخامة السوق المحلي وإمكانات التصدير، فيتجه هؤلاء فى الغالب إلى دول أخرى تقدم شروطأً وتسهيلات أفضل. وعندما حاولنا تصحيح هذا المسار بإستراتيجية لصناعة السيارات، تم تفصيل تلك الإستراتيجية لخدمة بعض الكبار، دون النظر إلى الأرتقاء بتلك الصناعة وتعزيز وجودها وتنميتها..
الخاسر الأول من هذا العبث هو الدولة المصرية وعلى القائمون على تلك الصناعة مراجعة ما حققناه منذ عام 1930 إلى اليوم واستخلاص الدروس إن أردنا أن نحجز لأنفسنا مكاناً بين الكبار فى عالم صناعة السيارات.