بالرغم من أن المرأة قد أثبتت ذاتها في العديد من المجالات الرائدة، فقادت الطائرات ومن قبلها السيارات، بل واشتركت في العديد من سباقاتها الرياضية، فإن صانعي السيارات ما زالوا يهينون مكانتها ويصرون على استخدامها كأدوات عرض جاذبة لأنظار المستهلكين لسياراتهم، ونحن بدورنا نؤكد أنه لا يجب الانسياق وراء هذه الموجة الطاغية.. ومن هنا فقد قررنا أن نتذكر سوياً قصة "برتا بنز" التي أسهمت بدعمها -قولاً وعملاً- في تطوير صناعة السيارات بعد أن كانت مهددةً بالتلاشي، خصوصًا مع كونها أول امرأة تقود سيارة في العالم، فكيف فعلت ذلك؟ هذا ما سنقصه عليكم في السطور التالية..
قبل البداية
حين يتملكنا شغف أو فكرة ما، فإن أكثر ما نحتاج إليه حينها هو الدعم المعنوي ممن حولنا، وقد كانت برتا تجسيدًا حيًا لمآزرة ومساندة المرأة لرفيقها.. فرغم أنها فتاة وُلدت عام 1849 لعائلة ثرية وعاشت في مدينة "بفورتسهايم" في جنوب غرب ألمانيا، فإن شغفها لم يرتبط -مثل قرينات عصرها- بالزينة والثياب فقط، بل اختارت الخروج عن الحياة التقليدية والبحث عن الشغف والطموح، فوجدت ضالتها في الشاب كارل بنز الذي كان ذلك الوقت قد أتقن التصميم المعماري وبدأ يتنقل بين الشركات والمشاريع المختلفة، وبعد أن تمت خطبتهما قرر كارل أن الوقت قد حان لتأسيس شركته الخاصة، وبحلول عام 1871 نجح بمشاركة "أوجست ريتر" في إنشاء شركة للأشغال المعدنية، ولكن لم تسر الأمور على ما يرام في السنة الأولى وبدأ المشروع يتهاوى، فاختارت برتا -وهي ابنة اثنين وعشرين عامًا- مساندة خطيبها ودفع جزء من مهرها لشراء نصيب ريتر وإنقاذ الشركة، لتبدأ رحلتهما المشتركة من قبل حتى الزواج!
رباط ثمين
في العام التالي أتم كارل زواجه من خطيبته وشريكته برتا، وقد انتقل لتأسيس شركة جديدة تحمل اسم Benz & Cie وهو ما زال يعتمد على مهر زوجته الذي دفعته كدعم مالي للشركة، وخلال تلك الفترة بدأ يفكر في ابتكارات حديثة تساهم في زيادة الدخل واتجه للعمل على تطوير محركات جديدة، وحقق بالفعل نتائج غير مسبوقة حتى أنهى أول عربة تسير بلا أحصنة في عام 1885، ورغم أن برتا هي من قامت بتمويل الابتكار ويحق لها –في القانون الحديث- الاحتفاظ بحقوق براءة الاختراع، فإنه لم يكن ليُسمح لها بذلك خلال تلك الفترة بسبب كونها امرأة متزوجة.. وفي كل الأحوال لم يكن أي شيء ليقضي على عزيمة برتا، وقدم زوجها أول مركبة تعمل بمحرك يعرفها العالم في 1886، وجاء منها النموذج الأول ثم الثاني ثم الثالث، وقررت برتا القيام بخطوة غير متوقعة كان لها دور رئيسي في تغيير مسار الأحداث..
رحلة تاريخية
بعد تسجيل ابتكار كارل كأول سيارة ظلت الرحلات التي تتم بها محدودة ولمسافات قصيرة ويقوم بقيادتها مساعدون ميكانيكيون، ولكن برتا التي أصبحت زوجة وأمًا لأربعة أبناء –أنجبت الخامس لاحقًا- لم تكن لتقف وتشاهد فقط، وكذلك ابنيها ريشارد وأويجن اللذين يسري في عروقهما الصغيرة حماس والديهما، فأقنعا أمهما بقيادة سيارة أبيهما والقيام برحلة بها.. وقد حكت في مذكراتها: "بدأنا الرحلة بعد الشروق مباشرةً، فيما كان كارل لا يزال نائماً.. لأنه لو كان مستيقظاً لمنع هذه الرحلة للأبد"..
وهكذا انطلقت برتا مع ابنيها في أحد أيام أغسطس عام 1888 لزيارة منزل والدتها في بفورتسهايم، وهي تقود النموذج الثالث من السيارة التي ابتكرها زوجها، لمسافة 106 كم من مدينة مانهايم..
لم تكن قيادة السيارة مجرد فكرة طائشة راودتها وشرعت في تنفيذها، ولكنها كانت قد فكرت مسبقًا في العقبات التي قد تواجهها أثناء الرحلة مثل سعة الخزان المحدودة مثلاً، فقامت بشراء الوقود للتزود خلال الطريق من إحدى الصيدليات –فقد كان حينها البترول والوقود متوفرين لدى الكيميائيين فقط- لتكون بذلك الصيدلية هي أولى محطات التزود بالوقود، وخلال الرحلة تعاملت بمهارة شديدة مع المشاكل الفنية التي واجهتها، كاستخدام دبوس قبعتها لتنظيف خط وقود مسدود، وكذلك عندما فشلت الفرامل الخشبية الموجودة توجهت إلى إسكافي لاستبدال الجلد بها..
وأخيرًا وصلت برتا لمنزل والدتها في وقت ما بعد الغسق، وفي حماس شديد أرسلت برقية إلى زوجها تخبره برحلتها، دون أن تدري وقتها أنها بذلك أول امرأة تقود سيارة في العالم، وظلت في منزل والدتها لبضعة أيام.
هذه الرحلة الجريئة كانت لها عدة أهداف، فقد أرادت برتا منح زوجها الثقة والشعور بأهمية ما يقدمه للمستقبل، والأهم من ذلك هو الترويج بطريقة عملية لابتكاره بعد أن فشل في التسويق له، فقد وقف الناس يشاهدون سيدة وولدين على مركبة غريبة تسير بلا أحصنة، لدرجة أن البعض ظن أنها أعمال شيطانية J، ومن ناحية أخرى فقد كانت للملاحظات التي دونتها في أثناء الرحلة أهمية كبيرة في تطوير ابتكار السيارة.
وداع أخير
رافقت برتا زوجها في رحلته وحياته الحافلة حتى وفاته عام 1929، وبعد عدة سنوات كانت برتا تحتفل بعيد مولدها الخامس والتسعين بتكريمها من معهد كارلسروه للتكنولوجيا في ألمانيا، وبعد يومين من هذا التكريم لحقت بزوجها الذي كتب عنها في مذكراته: "لم يبق معي سوى شخص واحد في سفينة الحياة الصغيرة عندما بدا أنه مقدر لها أن تغرق، كانت تلك زوجتي التي وضعت بشجاعة وحزم أشرعة جديدة من الأمل".
---
بمرور عامنا هذا تكون قد مضت 130 سنة على رحلة برتا التاريخية، والتي وضعت الجميع على أعتاب عالم السيارات الحديث، وقد اخترنا أن يأتي البروفايل إحياء لهذه الذكرى الخاصة التي من أجلها قمنا بزيارة متحف مرسيدس، والوقوف عن قرب وسط ذكريات قادتنا لما وصلنا إليه الآن.