في الطريق من العاصمة البريطانية لندن إلى مدينة " بانبوري Banbury" في مقاطعة أوكسفوردشاير،كانت رحلتي الأولى إلى عالم بينتلي، هذا الاسم الممتلئ بدلالات الفخامة والثراء، والذي قارب على بلوغ قرن من الزمان في دنيا السيارات الفارهة، ولم يتوقف خلال المائة عام –أو أقل قليلًا- عن الإبداع والعطاء.. تزاحمت الأفكار داخل عقلي حول ما يمكن أن يقال عن العلامة الإنجليزية الفريدة، وبدأت رسم خطوط عريضة حول الموضوع.. جلست في ترقب داخل سيارة الليموزين التي أستقلها والتي تنهب الطريق نهبًا لتوصلني إلى وجهتي، هناك في مدينة بانبوري حيث مقر نادي قائدي بينتلي، ثم بعدها إلى مدينة "كرو Crewe" حيث المقر الرئيسي للشركة.. كنت على موعد مع ثلاثة رجال، رحبوا بي للتحدث عن بينتلي الماضي والحاضر، عما حققته من إنجازات وما لاقته من إخفاقات، وأستطيع أن أقول الآن إنهم كانوا بحق خير معين، وإنهم قدموا لي -ولك بالطبع- عزيزي القارئ ثلاثة أوجه لحكاية بينتلي.
نادي قائدي بينتلي
كانت وجهتي الأولى نادي قائدي بينتلي، مبنى بسيط من طابقين يقع في الوجهه الشمالية الغربية من المدينة، ويسهل أن تظنه منزلاً عائليًا لولا اللافتة الصغيرة الموضوعة على مدخله، والتي خُطت عليها الحروف اللاتينية "بي دي سي إل BDCL" والتي هي اختصار لاسمه الطويل "نادي قائدي بينتلي المحدود Bentley Drivers Club Limited"، وفي الاستراحة الجانبية في الداخل، وجوار النافذة الزجاجية المطلة على شجر الدردار، كان يجلس في انتظاري، رجل في العقد السادس من عمره، إنجليزي كما ترتسم صورة الشخص الإنجليزي في مخيلتنا، وبالطبع -ككل الإنجليز تقريبًا- اسمه جون.. هو واحد من أنشط أعضاء النادي وأكثرهم حبًا لسيارات بينتلي، ومع وصول أقداح الشاي الشهيرة بدأ الحديث.
ذكريات عن البداية
قال جون وهو يستند إلى ذراع المقعد الوثير: "رسميًا بدأت العلامة التجارية بينتلي في الظهور عام 1919، غير إن القصة بدأت قبل ذلك بكثير، فلقد ولد مؤسس الشركة "والتر أوين بينتلي Walter Owen Bentley" في السادس عشر من شهر سبتمبر عام 1888 في لندن، لأب يدعى "ألفريد بينتلي" ويعمل رجل أعمال، وأم من أسرة ثرية تدعى "إميلي ني ووترهاوس"، وكان هو الطفل الأصغر بين تسعة أبناء لتلك الأسرة الكبيرة.. بدأ تعليمه في لندن ثم انتقل عام 1902 إلى "كليفتون كوليدج Clifton College" في مدينة "بريستول Bristol"، واستمر فيها حتى عام 1905 عندما بلغ السابعة عشرة، ليغادرها للعمل كمهندس مبتدئ في "السكة الحديدية الشمالية العظمى Great Northern Railway" في "دونكستير Doncaster" بمقاطعة "يوركشاير Yorkshire"، واستمر في هذا العمل لمدة خمس سنوات منحته العلم والخبرة، ومعرفة تقنيات العمل الهندسي والميكانيكي، وكيفية تصميم الآلات المعقدة..
وفي عام 1910 التحق بكلية "كينجز King's" في لندن، ليتولى بعد تخرجه العمل في "شركة سيارات التاكسي الوطنية National Motor Cab Company"، ويصبح مشرفًا على أسطول مكون من مائتي وخمسين سيارة، غير إن خطوته الأولى في عالم السيارات كانت في عام 1912، حين اشترك مع أخيه "هوراس ميلنير بينتلي Horace Millner Bentley" في إنشاء شركة لصناعة محركات السيارات الفرنسية تحت اسم "بينتلي آند بينتلي Bentley and Bentley"، وكان هو صاحب التعديل باستخدام سبائك الألومنيوم في صناعة المكابس الخاصة بتلك المحركات، ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى بات استخدام تصميم بينتلي في صناعة مكابس المحركات الخاصة بالطائرات من الألومنيوم في غاية الأهمية؛ لما تحققه من خفة في الوزن، وتحمل لنسب ضغط كبيرة وسرعات عالية، حتى إن الحكومة البريطانية اعتبرت تلك التقنيات بمثابة معلومات سرية، ومنعته من نقلها لأي من مصنعي المحركات الآخرين لاعتبارات أمنية.
بينتلي موتورز
يستطرد جون قائلاً: بعد الحرب، وفي أوائل عام 1919، أنشأ الأخوان بينتلي شركة جديدة لصناعة السيارات تحت اسم "بينتلي موتورز ليميتد Bentley Motors Limited"، وقاما بمشاركة "فرانك بيرجس Frank Burgess" مؤسس شركة "هامبر Humber"، و"هاري فارلي Harry Varley" مؤسس شركة "فوكسهول موتورز Vauxhall Motors"، في مجموعة تقوم بإنتاج سيارات رياضية ذات جودة عالية تحت اسم "بينتلي"، وبعد فترة وجيزة انضم إلى المجموعة المصمم "كلايف جالوب Clive Gallop"؛ للمساعدة في تطوير المحرك سعة 3 لتر الذي ظهرت به النسخة الأولى من سيارات بينتلي في يناير عام 1920، والذي وُجد تحت غطائها مع بداية إنتاجها التجاري في سبتمبر عام 1921، ليستمر إنتاجها في الازدياد في فترة العشرينيات من القرن الماضي، بدايةً من 145 سيارة عام 1922، إلى أن وصل الإنتاج إلى 417 سيارة في عام 1928، قبل أن يأتي الكساد الكبير عام 1929 لتبدأ مرحلة جديدة من القصة".
إلى هنا أعلن جون انتهاء الحديث، وبلفتة مهذبة لكنها حاسمة أخبرني أن الوقت قد حان لذهابه.. صافحت الرجل بحرارة شاكرًا له موافقته على المقابلة وسرد ما كان من تاريخ بينتلي العريق.
في أيدي المالكين
اتجهتُ بعد ذلك على الطريق السريع موغلاً أكثر في الشمال الغربي البريطاني، متوجهًا إلى مقاطعة "نورث ويست North West"، وبالتحديد إلى مدينة "كرو Crewe" حيث يقع المقر الرئيسي لشركة بينتلي، وحيث موعدي الثاني مع أحد مديري المركز الإعلامي بالشركة، وهو رجل في الأربعين من عمره، حمرة الشعر والوجه والنمش تحت العينين وعلى الأنف تشي بالأصول الأسكتلندية الواضحة.. اسمه "ويليام"، وهو أحد المسؤولين عن التاريخ الإداري للشركة، وتحت يديه ملفات تحكي تاريخ المالكين منذ إنشائها وحتى الآن، وفي مكتبه الجميل رغم بساطته بدأ الحوار حول أول عمليات بيع الشركة، وانتقال الملكية، وفي الحقيقة لقد كانت القصة أكثر إثارة مما توقعت بكثير.
خديعة رولز رويس
بدأ ويليام حديثه مشيرًا إلى صورة بالأبيض والأسود تمثل أحد خطوط إنتاج بينتلي في العشرينيات من القرن الماضي قائلًا: "مع الكساد الكبير في عام 1929 وما تلاه من أعوام، بدأت الأوضاع المالية للشركة تنهار بسرعة حتى إنها أصبحت على شفا الإفلاس التام عام 1931، الأمر الذي جعل بيعها شيئًا حتميًا، لتتقدم شركة "نابير آند صن Napier & Son" بعرض للشراء، إلا أن عملية البيع تعطلت بعد أن قبلت التراجع لصالح عرض آخر كان قد تم تقديمه من قبل شركة تدعى "بريتيش سينترال إيكويتابول تراست British Central Equitable Trust"، وبعد العديد من المباحثات كانت النتيجة نجاح الصفقة مع تلك الأخيرة، والتي لم تكن سوى واجهة تخفي ورائها المالك الفعلي، ألا وهو شركة "رولز رويس"، لتظهر الحقيقة بأن العملية لم تكن سوى خدعة لتستطيع رولز رويس الاستحواذ على بينتلي لا أكثر، وتحيل "والتر أوين بينتلي" إلى مجرد مدير للشركة!
ثم يكمل ويليام مبتسمًا: نصف قرن إلا عام واحد هو الوقت الذي ظلت فيه بينتلي جزءًا من شركة رولز رويس، فكانت أولى الخطوات التي اتخذتها الأخيرة ناحية بينتلي هي نقل خطوط الإنتاج الخاصة بها عام 1932 إلى مدينة "ديربي Derby" في مقاطعة "إيست ميدلاندز East Midlands"، لتبدأ إنتاج سلسلة طرازات أطلقت عليها "السيارات الرياضية الصامتة Silent Sports Car" والتي كانت تحمل محركًا سعة 3.5 لتر، وتتميز بالخفة والفخامة مع انخفاض الصوت الصادر عنها.. وفي إبريل من عام 1935 انتهت رسميًا علاقة والتر أوين بينتلي –مؤسس الشركة- بها، ليغادر بعد نهاية عقده وهو مستاء ويشارك في خط إنتاج سيارات آخر تحت اسم "لاجوندا Lagonda" والذي كان يطابق في إنتاجه سيارات بينتلي تمامًا عدا شيء واحد هو اسم العلامة التجارية "بينتلي""..
يشير ويليام إلى صورة أخرى ذات ألوان باهتة ويقول: "تغير مالكو بينتلي وشركتها الأم بعد ذلك مرتين، الأولى كانت عام 1980 عندما قامت الحكومة البريطانية عقب الانهيار المالي لشركة رولز رويس بتأميمها وتقسيمها إلى جزءين، أحدهما الخاص بصناعة محركات الطائرات، والآخر هو شركة رولز رويس للسيارات التي بيعت بما تملكه من شركات وأصول إلى شركة "فيكرز Vickers"، لتبدأ بينتلي رحلة صعود جديدة وتحسنًا كبيرًا في المبيعات أُطلق عليه شعبيًا اسم "نهضة بينتلي Bentley renaissance"، والتي استمرت أكثر من خمسة عشر عامًا قبل أن تبدأ شركة رولز رويس مواجهة بعض الصعوبات التي دفعت شركة فيكرز المالكة لها للإعلان عام 1997 عن نيتها بيعها، لتتلقى عروضًا جادة وتتم عملية البيع عام 1998 إلى مجموعة فولكس فاجن الألمانية التي تملكها حتى الآن".
طرازات بينتلي
خرجت من مكتب ويليام، مسؤول القسم الإعلامي، إلى مقابلة ويليام آخر، لكنه هذه المرة يعمل في قسم التصميمات والتطوير.. مهندس شاب في التاسعة والعشرين من عمره، من أصول أسترالية ويعمل في بينتلي منذ خمسة أعوام، مهمته فيها دراسة خطوط تصميمات بينتلي المختلفة، ومهمته في مقابلتي معه أن يحكي لي عن هذه التصميمات، ولذلك كانت إجابته حاضرة قبل السؤال، وبدا متحمسًا ليقول: "كانت البداية في الرابع والعشرين من يناير عام 1920 مع الطراز "بينتلي 3 لتر Bentley 3-Litre"، الذي اشتُق اسمه من سعة محركه، ثم أعقبه الطراز "بينتلي 8 لتر Bentley 8-Litre"، الذي أُطلق بين عامي 1930 و1932 وكان أكبر وأفخم طرازات السيارات في المملكة المتحدة، غير إن تزامن إطلاقه مع بلوغ الكساد الكبير ذروته وبالتالي إحجام عدد كبير من العملاء عن شراء السيارات الفارهة، أدى إلى الحد من إنتاج هذا الطراز بما لا يتجاوز 100 سيارة، وهو ما أضر ماليًا جدًا بالشركة وكان أحد أسباب اللجوء إلى بيعها.
يستدير الأسترالي اليافع بمقعده ذي العجلات مشيرًا بيديه إلى شاشة عرض كبيرة عليها صور لطرازات مختلفة من بينتلي، وموجهًا بصري إلى إحداها قائلاً: بعد الحرب العالمية الثانية، وبالتحديد عام 1946، ظهر طراز "بينتلي مارك الخامس Bentley Mark V"، الذي كان يعمل بمحرك ذي ست أسطوانات وسعة لترية قدرها 4.25 لتر، وفي الخمسينيات ظهر الطراز "إس وان كونتينيتال فلاينج سبور S1 Continental Flying Spur"، والذي كان يحمل محركًا سعة 4.9 لتر ينتج قوة قدرها 180 حصانًا، كما إن النسخ التي ظهرت من هذا الطراز بعد عام 1957 -والتي استمر إنتاجها حتى عام 1966- كانت تحمل صندوق تروس أوتوماتيكيًا، وتكييف هواء كخيار إضافي متاح عند الطلب، واستمرت بينتلي في تطوير طرازاتها تلك خلال عقدي الستينيات والسبعينيات مع ظهور سلسة طرازات جديدة هي "بينتلي تي Bentley T"، وفي عام 1980 ظهر طرازها "مولسان Mulsanne"، ثم تلاه الطراز "بروكلاندز Brooklands" في فترة التسعينيات، ليلحق به الطراز "أرنادج Arnage" الذي ظهر عام 1997 واستمر إنتاجه حتى عام 2009، أما آخر طرازات بينتلي فهو الطراز "بينتايجا Bentayga" وهو أول إنتاجها من السيارات الرياضية متعددة الاستخدامات أو ما يطلق عليه فئة الـSUV".
---------------
في صالة الانتظار بمطار هيثرو جلست منتظرًا حلول موعد طائرتي لأعود أدراجي إلى وطني الحبيب، وداخل رأسي تزاحمت الوجوه والحكايات والصور، لم أكن أعلم أن لقصة بينتلي كل هذا الزخم، كما لم أكن أعلم أنه سيكون لطرازاتها كل هذا البريق، الذي لا تستمده من الفخامة والرفاهية اللذين تقدمهما لعملائها فقط، بل أيضًا بمدى ما منحتهم من سعادة على مدار مائة عام، إلا قليلاً.