كان اليوم السابع من شهر إبريل عام 2012، جو الصباح الباكر الملبد بالغيوم في مدينة "ترولهاطن Trollhättan" السويدية يلقي في القلب الكثير من الشعور بالوحشة، وجليد الشتاء لم يلمسه دفء الشمس بعد ليذيبه ويحوله إلى ذلك اللون الرقراق الشفاف، بل مازال على لونه الأبيض الناصع، فالصيف لا يأتي على عجل في تلك البقعة من الكوكب، والنور لا يظهر إلا ساعات قليلة قبل أن ينحني متراجعًا أمام الليل، لكن في هذا الصباح –وكما اعتاد كل صباح- كان العامل الأربعيني "باطرك" ذاهبًا إلى عمله، حاملاً حقيبة معداته ليقوم بعمل لم يعتده قط، ألا وهو إزالة الرايات المعلقة أمام مقر الشركة الكبيرة التي ظل يعمل بها أكثر من عشر سنوات، قبل أن تعلن إفلاسها وتغلق مرافقها، وعلى الرايات نُقش الشعار وأربعة أحرف لاتينية متجاورة هي "إس، أيه، أيه، وبي"، تختصر اسم الشركة وتكوّن الاسم الآخر الذي يعبّر عن السويد في مجال السيارات غير الشهيرة فولفو، ألا وهو "ساب SAAB"..
البداية من الجو
في منتصف الثلاثينيات من القرن العشرين بدا لكل الحكومات أن العالم متجه إلى صراع مسلح، ستكون ساحته هي أوروبا كما حدث في الحرب العالمية الأولى، وبدأ كثير من الدول يعد نفسه لمواجهة هذا الصراع المرتقب، وحتى تلك الدول التي لم تكن تنوي المشاركة فيه دأبت على التحضير لحماية نفسها وحدودها وقرارها بالحياد، عن طريق تجهيز جيشها بالسلاح، ولم تكن السويد استثناءً، وخوفها من الحرب المرتقبة -والمد السوفيتي بالذات- كبقية دول أوروبا الشمالية لم يكن خارج السياق، لذلك فقرارها بإنشاء مصنع للطائرات عام 1937 في مدينة "لينكوبينج Linköping" لم يكن غريبًا أو مستغربًا، وهو المصنع الذي بدأ عمله تحت اسم "سفانسكا أيروبلاين أكتيابولوجيت Svenska Aeroplan AktieBolaget"، وهو ما يعني "شركة السويد للطائرات"..
ومع نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945 بدأت الشركة التفكير في التوجه لطرق مجال جديد هو مجال صناعة السيارات، وهو ما تحقق بالفعل عام 1947 مع ظهور أول طرازاتها تحت اسم "92" وتحت العلامة التجارية ساب.
مسيرة الإنتاج
كانت الشركة قد نقلت مرافق التصنيع الخاصة بالسيارات من لينكوبينج إلى مصانعها في مدينة ترولهاطن؛ لتكون أماكن تجميع وتصنيع السيارات منفصلة عن تلك التي تقوم بإنتاج الطائرات، ولتبدأ مسيرة إنتاج السيارات من هناك ويحقق الطراز الأول نجاحًا كبيرًا، حتى إن الشركة قد باعت منه بين عامي 1949 و1950 عشرين ألف نسخة، وقد قامت بناءً على هذا النجاح بإجراء العديد من التعديلات التصميمية والهندسية عليه، فالمحرك تطور من استخدام أسطوانتين إلى استخدامه لثلاث أسطوانات، كما إن الواجهة أصبحت أقرب إلى السيارات الرياضية، لتطرح الشركة النسخة الجديدة عام 1955 تحت اسم "ساب 93"، وفي نفس العام قامت بطرح أول طراز من السيارات السوبر الرياضية هو الطراز "ساب 94"، والذي طُرح تحت الاسم التجاري "سونيت Sonett"، واستمر إنتاجه ثلاثة أعوام ثم توقف قبل أن يبدأ مرةً أخرى من جديد بين عامي 1966 و1974..
في عام 1959 تم طرح الطراز "ساب 95"، وفي العام الذي يليه طرحت الشركة الطراز "ساب 96" الذي بُني على منصة الطراز "ساب 92" وحقق نجاحًا شعبيًا مذهلًا، حيث تم تصديره خارج السويد وبيعت منه عام 1960 550.000 نسخة، غير إن حظ الشركة الأفضل على الإطلاق كان عندما قررت استثمار هذا النجاح عام 1965 بالبدء في مشروع "جودموند Gudmund" –اسم اليوم الثاني من شهر إبريل في التقويم السويدي الخاص، وهو مشروع لبناء سيارة جديدة تستوحي روح التصميم من طراز "ساب 96" لكن أكبر وأكثر كفاءة، لتظهر لأول مرة في الثاني والعشرين من نوفمبر عام 1967 في ستوكهولم تحت اسم "ساب 99"، ويستمر هذا المشروع في تطوير وإنتاج هذا الطراز حتى عام 1984.
ساب سكانيا
كانت الشركة على موعد عام 1969 مع بداية عصر جديد، ألا وهو عصر اندماجها مع شركة تصنيع الشاحنات السويدية الأكثر شهره وكفاءة "سكانيا-فابيس أيه بي Scania-Vabis AB"، وهي واحدة من أكبر شركات تصنيع الشاحنات الثقيلة والحافلات في العالم، والتي كان أغلب أسهمها مملوكًا لعائلة "ولينبيرج Wallenberg"، العائلة السويدية الأشهر في مجال المال، ومع هذا الاندماج تحول الاسم الرسمي للشركة إلى "ساب –سكانيا أيه بي Saab – Scania AB"، وزادت قدرات الشركة التطويرية، وهو ما منحها فرصة لتوسيع نطاق إنتاج الطراز "ساب 99" عن طريق إضافة نموذج كوبيه جديد عام 1973، ليصل إنتاج الشركة من السيارات عام 1976 إلى مليون سيارة، وفي عام 1978 بعد التخلي عن الطراز "99" لصالح الطراز البديل "ساب 900" قاربت مبيعات الشركة الوصول أيضًا إلى مليون نسخة، خاصةً مع الشعبية الشديدة لهذا الطراز داخل السويد وخارجها، حتى إنه أصبح النموذج الأكثر مبيعًا وشعبيةً في دول مجاورة للسويد مثل فنلندا، وحتى إن العديد من الناس حتى اليوم، ورغم اقتنائهم طرازات حديثة من السيارات، يفضلون الإبقاء على نسخهم من هذا الطراز بالذات.
ساب بنكهة أمريكية
في عام 1989 أعيد تشكيل قسم السيارات في ساب –سكانيا في شركة مستقلة تحت اسم "شركة ساب للسيارات Saab Automobile AB"، تسيطر الشركتان المالكتان لها على النصف من مجموع أسهمها، أما النصف الآخر فتسيطر عليه شركة جنرال موتورز، ليبدأ عصر جديد لشركة ساب لكنه هذه المرة بنكهة أمريكية، ومن خلال وضع الشركة الأمريكية لاستثمارات بقيمة 600 مليون دولار أمريكي، قامت بتحفيز عمليات التطوير الخاصة بالإنتاج لتقدم الطراز "ساب 900" الجديد عام 1994، والذي تم بناؤه على منصة الطراز أوبل فيكترا، وبدأت الشركة مع طرح هذه النسخة المطورة الجديدة عام 1995 في تحقيق أرباح للمرة الأولى بعد سبع سنوات عجاف، وعلى الرغم من ذلك فإن تلك النسخة لم تحقق نجاحًا مماثلاً لما حققته النسخة الكلاسيكية منه..
وفي الذكرى الخمسين لإنتاج أولى سيارات ساب عام 1997، أطلقت الشركة طرازًا جديدًا تحت اسم "ساب 9000" والذي سيظل يُطرح في الأسواق حتى عام 2012 بنجاح تام.
محاولات للبيع
مع دخول القرن الحادي والعشرين بدأت جنرال موتورز في التحرك للاستحواذ على الأسهم المتبقية للشركة، وهو ما استطاعت أن تتمه بالفعل عام 2000 لتحولها إلى شركة تابعة ومملوكة بالكامل لها، وبعد هذه الخطوة ظهر أول طراز من ساب وهي تحت سيطرة جنرال موتورز، وهو الطراز "ساب 9-3" الذي طُرح في ثلاثة نماذج، الأول صالون رياضي، والثاني هاتشباك، أما الثالث فهو أكثر كلاسيكية ذو أربعة أبواب، ثم توالت الطرازات مثل "ساب 9-7 إكس"، و"ساب 9- 2 إكس"، والعديد من الطرازات الأخرى بهدف زيادة المبيعات، غير إن الخطوات كانت في أغلبها غير ناجحة، الأمر الذي دفع جنرال موتورز في ديسمبر عام 2008 للإعلان أن العلامة التجارية ساب قيد المراجعة، وهو ما يعني احتمال عرضها للبيع، ومع هذا الإعلان تلقت الشركة سبعة وعشرين طلبًا للشراء تضمنت أسماءً عملاقة في صناعة السيارات، مثل فيات، جيلي، هيونداي، رينو، تاتا، وBMW، غير إن المباحثات الجدية استمرت مع شركة صناعة السيارات الرياضية "كونيجس إج Koenigsegg"، حيث أعلنت الشركة السويدية في السادس عشر من يونيو عام 2009 عن نيتها شراء ساب من المالكة الأمريكية، وفي شهر يوليو أعلن الطرفان أن شركة جنرال موتورز وافقت على الصفقة التي سيتم تمويلها من خلال قرض من بنك الاستثمار الأوروبي، الذي وافق على منح القرض في أكتوبر من نفس العام، إلا أنه في الرابع والعشرين من نوفمبر خرجت كونيجس إج على العالم معلنةً أنها توصلت إلى استنتاج مؤلم، وهو عدم قدرتها على إتمام عملية الشراء!
سبايكر
بعد انهيار الصفقة مع كونيجس إج، أعلنت جنرال موتورز أنه في حالة عدم التوصل إلى اتفاق مع مشتر للعلامة التجارية ساب قبل نهاية عام 2009، فإن إغلاق الشركة السويدية سيكون هو قرارها الحتمي، وبدأ العد التنازلي للوصول إلى موعد الإغلاق النهائي الذي فرضته جنرال موتورز على نفسها، وهو السابع من يناير عام 2010 -بعد أن كان الثالث والعشرين من ديسمبر 2009- وتلقت العديد من العروض من شركات ومؤسسات صناعية مختلفة حول العالم، وكان من بين تلك العروض ما يستحق عناء المباحثات الجدية، وعلى ملف هذا العرض كان اسم سويدي آخر هو "سبايكر"..
لإنهاء المباحثات تم تمديد موعد الإغلاق مرة أخرى لأجل غير مسمى، حتى تم التوقيع النهائي على الصفقة في السادس والعشرين من يناير عام 2010، بقيمة أربعمائة مليون دولار أمريكي لتعود ملكية ساب من جديد إلى السويديين.
محاولات إنقاذ
لم تستطع سبايكر النجاح مع العلامة التجارية ساب، بل إن التكاليف المالية أصبحت مرتفعة بشكل لم يمنحها القدرة على السداد للموردين، والذين توقفوا بدورهم بدايةً من مارس عام 2011 عن تزويد الشركة بوسائل الإنتاج المطلوبة لعمليات التصنيع، وبدأت إدارة الشركة البحث عن تمويل من خلال المليونير الروسي "فلاديمير أنتونوف Vladimir Antonov"، بنك الاستثمار الأوروبي، وحتى جنرال موتورز، إلا أن كل المحاولات باءت بالفشل، إلى أن توصلت لحل عن طريق مشروع مشترك مع شركتين صينيتين هما "يونجمان والصين للسيارات Youngman and Chinese automotive"، و"بانج دا Pang Da"، إلا أن جنرال موتورز اعترضت وأعلنت أنها في حالة إتمام المشروع لن تمنح الشركات الصينية التصريح المطلوب لاستخدام حقوق الملكية الفكرية للتقنيات الموجودة في سيارات ساب، وبالتالي انهارت الصفقة، لتعلن المحكمة السويدية الجزئية في "فنيرزبورج Vänersborg" في جلستها التي عقدت في السادس عشر من إبريل عام 2012 إفلاس شركة ساب لصناعة السيارات.
القصة لم تنتهِ بعد
بعد إغلاق الشركة بشهرين، وتحديدًا يوم الثالث عشر من يونيو عام 2012، عُقد مؤتمر صحفي من قبل مسؤول تصفية دين شركة ساب؛ ليعلن عن شراء شركة "السويد الوطنية للسيارات الكهربائية National Electric Vehicle Sweden NEVS" لأصول الشركة، واستئنافها لعمليات الإنتاج في مجال تصنيع السيارات الكهربائية فقط، وهو ما يخرجها من تحت مظلة ضرورة الحصول على موافقات وتصاريح من المالكة السابقة جنرال موتورز، وبدأت بالفعل الإنتاج من عام 2014، كما أعلنت في يونيو الماضي عن نيتها بناء مصنع في مدينة "تيانجن Tianjin" الصينية، بهدف طرح سيارات ساب الكهربائية في السوق الصينية.
---------
إن السويديين رغم انفتاحهم على العالم وعلى كل الثقافات، تجد في داخلهم جانبًا محافظًا يعتبر العالم هو السويد، أو أن السويد هي كل العالم، لذلك فهم يعتزون جدًا بما تصنعه أيديهم، وربما هذا هو السبب الذي يجعل علامات تجارية مثل ساب -رغم نجاحها عالميًا- تنجح أكثر عندما يستخدمها أحفاد الفايكينج.