كان عامل البلدية المسؤول عن الحدائق يمر كعادته في صيف عام 1882 في أحد شوارع بلدة بادكنشتات Bad Cannstatt، التابعة لمدينة شتوتجارت Stuttgart الألمانية، حين لفتت انتباهه أصوات معدنية تصدر من داخل حديقة خلفية لأحد المنازل.. التف حول البيت بتوجس وهو يسترق السمع، إلى أن وصل إلى مدخله الذي كانت مثبتة عليه لافتة صغيرة كُتب عليها بحروف بارزة: "جوتليب دايملر Gottlieb Daimler".. استمر في مراقبة المنزل ثلاثة أيام كانت كفيلة بتأكيد شكوكه، هذا المنزل يوجد بداخله مصنع لتزوير العملة، فما كان منه إلا أن استدعى الشرطة لاقتحام المنزل والتأكد من مصدر هذه الأصوات، وعند الاقتحام لم تجد الشرطة أية عملات، فقط وجدت رجلين اتخذا من مبنى زجاجي في حديقة المنزل مكانًا لإصلاح وتصنيع المحركات.. كان أحد الرجلين هو صاحب المنزل، أما الآخر فكان صديقه فيلهلم مايباخ..
طفولة وصبا
ولد فيلهلم مايباخ Wilhelm Maybach في التاسع من فبراير عام 1846، في مدينة هايلبرون Heilbronn بولاية بادن –فورتنبيرج Baden-Württemberg الألمانية، لأب يعمل نجارًا وأم ربة منزل تدعى لويز Luise.. أسرة متواضعة كأغلب الأسر الألمانية في ذلك الوقت، وهو ما دفع الأب لاتخاذ قرار بالانتقال إلى مدينة شتوتجارت؛ طلبًا لوضع اقتصادي أفضل، وهو ما تم بالفعل.. وقتها كان الطفل فيلهلم لم يتم سنواته الخمس بعد، وبعد الانتقال، ومع بلوغه سن العاشرة، فاجأته الحياة بوفاة والدته عام 1856، وقبل مرور ثلاث سنوات كشفت عن مزيد من الأحزان في حادث وفاة والده عام 1859، والذي شكك الكثيرون وقتها بأنه انتحار، وقد صُدم الطفل من فقد والديه بهذه السرعة، غير إن صدمته كانت أكبر عندما قررت العائلة نشر إعلان في الصحف لمن يريد تبني أطفال الأسرة المكلومة الخمسة، الذين كان من بينهم فيلهلم بالطبع..
تقدمت مؤسسة القس البروتستانتي جوستاف فيرنر في "روتلينجن Reutlingen" بمدينة شتوتجارت لتلك المهمة، وهي مؤسسة متخصصة في تربية الأيتام على قيم التآخي والعلم، وكانت تقوم بتوفير عمل لهم في مصانع الورق والمعدات الزراعية والمخابز.
لقاء الصديقين
كاد فيلهلم مايباخ أن يصبح فرانًا، لولا أن القس فيرنر لاحظ فيه مواهب عديدة خاصةً الرسم، فأرسله عام 1865 وهو في التاسعة عشرة من عمره إلى أكاديمية متخصصة؛ ليتعلم الفنون مع دروس في الفيزياء واللغتين الإنجليزية والفرنسية، وهناك قابل مدرسًا زائرًا شابًا في الحادية والثلاثين من العمر، كان يدعى جوتليب دايملر..
منذ لقائهما الأول نشأت بينهما علاقة وطيدة، سرعان ما تحولت من علاقة طالب بأستاذه إلى علاقة صداقة قوية، وفي عام 1867، وبالتحديد في حفل زفاف دايملر على زوجته الأولى إيما كورتز، تعرف مايباخ على بيرتا هابرماس التي ستكون زوجته فيما بعد.. وفي مجال العمل كان للصداقة دورها أيضًا، خاصةً أن دايملر لاحظ في مايباخ مهارة قابلة للتطوير، ولم يمض وقت طويل حتى دعاه عام 1869 للعمل في مكتب رسومات شركة "دوتز Deutz"، وهو ذات المكتب الذي كان يعمل فيه دايملر نفسه، وحتى عندما نشأ خلاف بين الأخير وإدارة الشركة عام 1881، وقام على أثره بترك عمله لدى دوتز، تبعه مايباخ دون تفكير رغم ما عُرض عليه من قبل الشركة من مناصب متقدمة للاستمرار في العمل، إلا أن الصداقة كانت أقوى من المصلحة دائمًا عند مايباخ.
داخل الغرفة الزجاجية
من داخل الغرفة الزجاجية في الحديقة الخلفية في منزل دايملر بدأ مايباخ طريقه في تطوير وتصنيع المحركات، حيث بدأ تركيزه أولاً على تسريع دوران محرك البنزين الخاص بالسيارات، وفي نفس الوقت صنع صديقه دايملر داخل نفس الغرفة الزجاجية أول دراجة نارية في التاريخ، والتي أطلق عليها "دايملر ريتفاجن Daimler-Reitwagen"، ثم أنتجا سويًا أول سيارة ذاتية الحركة ذات أربع عجلات عام 1886، وكان ذلك بعد عام واحد من إنتاج كارل بنز لسيارته ذاتية الحركة ذات الثلاث عجلات فقط.. وخلافًا لرأي دايملر الذي كان يفضل نقل الحركة عبر حزام مشدود، ابتكر مايباخ نظام ناقل الحركة الذي يستخدم تروسًا معشقة، وفي عام 1890 اخترع مايباخ أول محرك ذا أربع أسطوانات ويعمل بأربعة أشواط، وينتج قوة قدرها خمسة أحصنة، كما ابتكر الحارق ذا الرأس البخاخ، وأيضًا دورة التبريد المغلقة التي تعمل بواسطة الماء.
أحزان ومصاعب
كان عام 1890 بداية الأحزان لمايباخ؛ حيث توفيت زوجته، ومن بعد وفاتها واجه مصاعب في العمل، حيث فقد حقوقه في براءات الاختراعات التي كان قد حصل عليها، ودخل في نزاعات قضائية لاستردادها، وهو ما دفعه في إطار سعيه لاسترداد تلك الحقوق إلى إنشاء شركة مع صديقه دايملر تحت اسم "دايملر موتورن كومباني"، وذلك في الثامن والعشرين من نوفمبر عام 1890؛ للحفاظ على باقي الحقوق وما قد يستجد منها، خاصةً بعد أن اجتهد ست سنوات كاملة لينجح في استعادة حقوقه الضائعة مرة أخرى.. وفي عام 1900 كان مايباخ على موعد آخر مع الأحزان، حين توفي صديقه جوتليب دايملر في السادس من مارس، ليكون قد فقد الشريك والصديق بعد أن فقد الزوجة والحبيبة.
العمل وحيدًا
كان مايباخ قد تعرف عام 1897 على رجل الأعمال "إميل جيلينيك Emil Jellinek"، الذي سميت سيارات مرسيدس على اسم ابنته، وكان منذ عام 1898 يشتري معظم إنتاج شركة دايملر من السيارات، ويقوم بتسويقها بنفسه في النمسا، المجر، فرنسا، بلجيكا، والولايات المتحدة الأمريكية، وبعد وفاة جوتليب دايملر، فقد مايباخ جزءًا كبيرًا من الدعم داخل مجلس إدارة الشركة، إلا أنه حظي إجمالاً برعاية جيلينيك، حتى إن الأخير عرض عليه إنشاء مصنع سيارات جديد وإعطائه السيطرة الكاملة على إدارته، إلا أن مايباخ رفض المجازفة، إلى أن دخل في مرحلة خلافات قوية مع باقي أعضاء مجلس إدارة شركة دايملر، الأمر الذي انتهى باستقالته ربيع عام 1907.
مايباخ.. الابن ينطلق
كان كارل مايباخ –ابن فيلهلم مايباخ– قد عمل معه منذ عام 1904 وحتى تقديم الأب استقالته في عام 1907، وكان الابن قد أظهر تفوقًا في مجال الهندسة، الأمر الذي مهد لاندماج الخبرة التي يتمتع بها الأب مع حماسة الشباب التي تميز الابن، ليفكرا في إنشاء شركة جديدة، وهو ما أهدته الطبيعة لهما بكل بساطة، حين قامت إحدى عواصف عام 1908 بتحطيم سفينة الكونت فردينان جراف فون زيبيلين الجوية "آير شيب إل زد4 LZ4 Airship"، فاقترح فيلهلم مايباخ على صاحب السفينة أن يوكل أمر تصميم السفينة الجديدة لابنه كارل، وفور موافقة الكونت فيردينان قام مايباخ الأب والابن بإنشاء شركة تابعة لشركة زيبلين في "فريدريشسهافن Friedrichshafen"، لبناء محركات السفن الجوية والطائرات، ومع بداية الحرب العالمية الأولى وحظر إنتاج السفن الجوية والطائرات، سعى كارل مايباخ لإنتاج محركات بنزين وبيعها لمصانع إنتاج السيارات، غير إن فشل المشروع دفعه للتفكير بشكل مختلف.
سيارات فارهة
قرر كارل مايباخ التخلي عن المشروع الأول الذي لم يلقَ النجاح المطلوب، وقام بالتمسك بفكرة أخرى تقوم على إنتاج مجموعة المحرك وعلبة السرعات والمنصة مع العجلات وأنظمة التعليق والكبح، مع التزود بالهيكل من منتجي هياكل خارجيين، وحسب طلب الزبون، لكن على مستوى عال جدًا من التقنية ودقة التصنيع، الأمر الذي أدى إلى أن يماثل سعر سيارة مايباخ سعر منزل عائلي، وقد بدأ المشروع رسميًا عام 1921.
-----------
كان لفيلهلم مايباخ الحظ في أن يرى نجاح العلامة التجارية التي تحمل اسمه، والتي كانت ترى النجاح يومًا بعد يوم، إلى أن أصبحت قبلة كل الأثرياء في العالم، غير إنه في مساء يوم التاسع والعشرين من ديسمبر عام 1929، أغلق عينيه في ليلته الأخيرة ليفارق الحياة، تاركًا اسمًا وتاريخًا تتحدث عنه الأجيال.