في غرفة المكتب الوثيرة بوزارة الحرب البريطانية، في خريف عام 1946، كان القائد البريطاني "سير روبنسون" -المسؤول عن ملف الأسرى التابعين لدول المحور المهزومة لدى بريطانيا- يجلس على مكتبه كلاسيكي الطراز، وفي يده قلم من الحبر الأسود، وعلى طرف أنفه نظارته الطبية المستديرة، حيث كان يخط توقيعه على قائمة المفرج عنهم من الأسرى الإيطاليين التابعين لوحدة صيانة المركبات، والذين وقعوا في الأسر عام 1945 أثناء القتال في جزيرة رودس.. كانت القائمة طويلة، وعلى رأسها قائد هذه الوحدة والمشرف عليها، الشاب ذو الثلاثين عامًا، "فيروتشيو لامبورجيني"..
المؤسس
ولد "فيروتشيو لامبورجيني Ferruccio Lamborghini" في المنزل رقم 22 بحي "ريناتزو دي تشينتو Renazzo di Cento" بمنطقة "فيرارا Ferrara"، في مقاطعة "إيميليا – رومانيا Emilia-Romagna" بشمال إيطاليا، في الثامن والعشرين من إبريل عام 1916.. الأم "إيفيلينا Evelina"، والأب "أنطونيو Antonio" الذي يملك مزرعة كبيرة للكروم، غير إن ما استهوى فيروتشيو لم يكن نمط الحياة الزراعية من حوله، بل كانت الآلات الزراعية التي يستخدمها أبوه في العمل، الأمر الذي دفعه للاهتمام بالميكانيكا، وجعله يلتحق بـ"معهد فراتيلي تاديا التقني Fratelli Taddia Technical Institute" بالقرب من بولونيا..
في عام 1940 تم تجنيده في سلاح الجو الملكي الإيطالي، كمشرف على وحدة صيانة المركبات التابعة للحامية الإيطالية الموجودة على جزيرة رودس، وعندما سقطت الجزيرة، كان فيروتشيو من ضمن الأسرى الإيطاليين الواقعين في أيدي البريطانيين، واستمر في الأسر مدة عام تقريبًا، قبل أن يعود للوطن عام 1946.
بعد العودة
كان فيروتشيو من الذكاء بحيث يستطيع قراءة التغيرات السياسية والاقتصادية التي تحدث في القارة الأوروبية، التي كانت ما زالت تنفض ركام البارود من فوق جسدها الواهن، وهو ما جعله يتوقع نموًا كبيرًا في زمن ما بعد الحرب للاستثمارات في شتى المجالات، الأمر الذي دفعه للإسراع بإنشاء شركة باسم "لامبورجيني تراتوري Lamborghini Trattori"، التي تخصصت في تصنيع الجرارات الزراعية، وحققت الكثير من النجاح، وحقق هو منها الكثير من الثروة..
وفي عام 1959 قام بتوسيع نشاطه بافتتاح مصنع للسخانات تحت اسم "لامبورجيني بروتشاتوري Lamborghini Bruciatori"، ليضيف شركة أخرى إلى اسمه، وأرباحًا جديدة إلى خزائنه.. لقد أصبح في غضون سنوات من الأثرياء، وأصبح يمتلك منزلاً عامرًا ومرآبًا مليئًا بأنواع السيارات الفاخرة، مثل: ألفا روميو، لانشيا، مرسيدس-بنز 300 S، جاكوار E-Type كوبيه، وسيارتين مازاراتي GT3500، لتكون لديه القدرة على استخدام سيارة مختلفة كل يوم من أيام الأسبوع.
لامبورجيني والسيارات
كان فيروتشيو شخصية مندفعة مقدامة إلى حد التهور أحيانًا، كان ثائرًا جامحًا محبًا للحياة والانطلاق، وكانت له آراء لاذعة إلى حد يتخطى الخطوط الحمراء في بعض الأحيان، وهذا الاندفاع، وتلك الآراء، ربما كانت هي السبب الرئيسي في ظهور سيارات لامبورجيني إلى الوجود؛ فلقد سافر رجل الأعمال الثري عام 1958 إلى "مارانيللو Maranello"، لشراء سيارة فيراري كوبيه من طراز " Ferrari 250GT" ذات مقعدين، غير إن رأيه فيها كان أنها صاخبة جدًا وقيادتها خشنة، مما جعله مضطرًا للذهاب كل عدة أشهر في رحلات متتالية إلى مارانيللو؛ ليقوم مركز خدمة فيراري بتعديل ما بها من عيوب دون جدوى –من وجهة نظره، مما جعل رأيه في خدمة ما بعد البيع لدى فيراري سلبيًا جدًا.. وفي عام 1963 استقر رأي فيروتشيو على افتتاح شركة جديدة لصناعة السيارات السريعة الفاخرة؛ لتنافس فيراري وتكون الأفضل، ولتظهر تحت اسم "أوتوموبيلي لامبورجيني Automobili Lamborghini".
الشعار
عالم مصارعة الثيران هو جزء هام من هوية لامبورجيني، فشعار الشركة هو ثور في لحظة انقضاض بقرنيه القويين، ولهذا الشعار قصة، فلقد كان فيروتشيو لامبورجيني في أحد أيام عام 1962 يزور صديقه "دون إدواردو ميورا Don Eduardo Miura"، مربي الثيران الشهير في مزرعته في إشبيلية، وهناك شاهد أحد الثيران الهائجة، "فتخيل فيه نفسه" كما صرّح بعد ذلك، وقرر أن تكون صورة هذا الثور هي شعار شركته الجديدة لتصنيع السيارات.
الطراز الأول
إذا أردت المنافسة، فالبداية يجب أن تكون قوية.. هذا كان رأي فيروتشيو الذي صرح به لكل أصدقائه المعترضين على إنشاء شركته الجديدة للسيارات، فلقد كانوا يعتبرون قراره بهذا الشأن محض تهور، وقفزة في الظلام، إلا أنه كان يعرف ما يريد، فاختار لتصميم أول طراز من إنتاج الشركة اثنين من المصممين عملا من قبل مع شركات كبيرة، مثل فيراري ومازاراتي ، الأول هو الإيطالي "جيان باولو داللارا Gian Paolo Dallara"، والآخر هو النيوزيلاندي "بوب والاس Bob Wallace"، أما لتصميم الهيكل والتصميم الخارجي فلقد رفض فيروتشيو التعامل مع أسماء معروفة في هذا المجال، مثل "فيجنال Vignale"، "غيا Ghia"، "بيرتون Bertone"، وحتى المصمم الأشهر عالميًا "بينينفارينا Pininfarina"، ولجأ إلى مصمم مغمور يدعى "فرانكو سكاليوني Franco Scaglione"، ليظهر الطراز الجديد تحت اسم "350" و"350 GT" ويحقق نجاحًا غير متوقع، لتبدأ رحلة لامبورجيني في عالم صناعة السيارات..
وفي أكتوبر عام 1963 كان موعد الظهور الأول للطراز المعدل "350 GTV" أمام الجمهور في معرض تورينو للسيارات، غير أن خلافًا نشأ بين فيروتشيو ومصمم محرك هذا الطراز "جيوتو بيتزاريني Giotto Bizzarrini" أوقعه في حرج؛ حيث رفض المصمم السماح له بعرض الطراز الجديد متضمنًا المحرك الذي صممه، وهو ما دفع فيروتشيو إلى عرضه في المعرض بدون محرك، حيث ملأ مكانه بالأحجار، وأغلق الغطاء بإحكام بحيث لا يمكن فتحه؛ لإخفاء عدم وجود المحرك، كما وضع السيارة على منصة عالية نسبيًا عن الأرض؛ كي يمنع تطفل الأيدي العابثة J.
مصنع لامبورجيني
سُجلت الشركة رسميًا كمصنع سيارات في الثلاثين من أكتوبر عام 1963، واشترى فيروتشيو 46000 متر مربع على الطريق رقم 12 بمنطقة "فيا مودينا Via Modena"، في مقاطعة "سانت أجاتا بولونيز Sant'Agata Bolognese"، والتي تبعد ثلاثين كيلو مترًا فقط عن مدينة "تشينتو Cento"، معقل صناعة السيارات الإيطالية، لينشئ مصنعه الجديد هناك.. الاختيار الذكي للموقع أتاح للشركة الاستفادة من كل مرافق صناعة السيارات القريبة، كما أتاح لها استقدام عمال مهرة من المصانع والشركات المجاورة؛ للعمل في مصنع لامبورجيني الجديد، وقام فيروتشيو أيضًا بإجراء اتفاق إيجابي جدًا مع القيادة الشيوعية للمدينة في ذلك الوقت ومع نقابات العمال، يقضي بتوظيف عمال من المنطقة واستثمار حسابات الشركة في البنوك المحلية، مقابل فائدة قدرها 19% على ودائع وحسابات الشركة، وإعفاء تام وكامل من أية ضرائب، وبالطبع كان هذا الاتفاق أكبر دليل على البداية القوية للشركة كما كان يقول مؤسسها دائمًا.
بيع الشركة
بعد الطفرة والشهرة اللذين حققتهما سيارات لامبورجيني خلال سنواتها الأولى، جاءت حقبة السبعينيات من القرن العشرين لتفتح أبواب أزماتها الكبيرة في وجه الشركة الجديدة، ففي عام 1971 بدأت الشركات الصناعية في إيطاليا تواجه مشاكل وضغوطًا من الحركات العمالية، وبدأت إضرابات العمال عبر كل إيطاليا –وفي الشمال الصناعي بالذات- تزداد وتصبح أشد وطأةً وتأثيرًا على مسار العمل ونظامه، الأمر الذي دفع فيروتشيو إلى بيع نسبة 51% من أصول الشركة إلى صديقه رجل الأعمال السويسري "جورج هينري روسيتي Georges-Henri Rossetti"، بقيمة 230.000 دينار، وبالتالي تخلى عن السيطرة في مجلس إدارة الشركة، غير إن روسيتي ترك له إدارة المصانع بشكل شبه كامل، حيث لم يكن يتدخل في إدارة عمليات الإنتاج أو المبيعات تقريبًا.
غير إن الأمور بدأت تزداد تعقيدًا مع أزمة النفط العالمية عام 1973، وتوجه الحكومات لسن قوانين تحد من استهلاك الوقود، بفرض رسوم كبيرة على شركات السيارات التي تستخدم المحركات ذات قدرات الاستهلاك العالية –والتي كانت لامبورجيني إحداها- ووضع لوائح حاكمة لتلك الشركات، كما أن المشترين بدأوا -مع الارتفاع المستمر لأسعار الوقود خلال الأزمة- في العدول عن شراء طرازات لامبورجيني التي كانت تستهلك الكثير منه، وتوجهوا للبحث عن طرازات أقل كلفةً وأكثر توفيرًا.. كل هذه العوامل دفعت فيروتشيو إلى بيع باقي حصته إلى "رينيه ليمير René Leimer"، والذي هو رجل أعمال وصديق لهنري روسيتي.
الإفلاس
خلال أزمة النفط وما بعدها، عجزت الشركة عن الوفاء بكثير من التزاماتها المادية، ولم تستطع إدارة الشركة بعد مؤسسها فيروتشيو لامبورجيني أن تتعامل مع تلك الأزمة وما بعدها، مما اضطرها عام 1978 إلى إعلان إفلاسها، وكان من الطبيعي بعد هذا الإعلان أن تصدر المحاكم الإيطالية حكمًا قضائيًا بوضعها تحت سيطرة الحكومة، لتدخل في تصفية في الثامن والعشرين من فبراير عام 1980، وتئول ملكيتها إلى الأخوين السويسريين "جان كلود وباتريك ميمران Jean-Claude and Patrick Mimran"، أصحاب المشاريع الغذائية المعروفين، وفي الثالث والعشرين من مايو عام 1981 كان الأخوان هما العارض الوحيد لاستلام الإدارة التنفيذية للشركة من الحارس القضائي التابع للحكومة، ليصبحا المسيطرين فعليًا عليها، وهو ما دفعهما لوضع خطة طَموح لإعادة الهيكلة، كما قاما بإعادة تأهيل مرافق المصنع في سانت أجاتا..
وفي هذه الفترة ظهرت طرازات عالية الكفاءة، مثل "كونتاك إل بي تيربو إس Countach LP Turbo S"، التي كانت تعمل بمحرك تربو مزدوج سعة 4.8 لتر، وينتج قوة قدرها 758 حصانًا، كما كان قادرًا على دفع السيارة من الثبات إلى سرعة 100 كم/س في زمن تسارع قدره 3.7 ثانية فقط، لتصل إلى سرعتها القصوى البالغة 333 كم/س، ومع هذا الطراز وغيره من الطرازات بدأت لامبورجيني تستعيد وضعها المميز في سوق السيارات من جديد.
تعدد المالكين
نجاح لامبورجيني جعل لعاب الشركات الكبرى يسيل طمعًا في الاستحواذ عليها، وهو ما قامت به شركة كرايسلر بالفعل عام 1987، في صفقة شرائها التي قُدرت قيمتها بحوالي عشرة ملايين دينار، لتستمر لامبورجيني في حوزة كرايسلر حتى عام 1993، حين بحثت -في إطار سياستها لتخفيف الأعباء- عن مشتر لشركة لامبورجيني، حتى وجدت شركة إندونيسية مقرها بيرمودا، واسمها "ميجا تيك MegaTech"، ومملوكة لشركة "سيدتكو القابضة SEDTCO Pty"، والتي بدورها مملوكة لرجال أعمال إندونيسيين على رأسهم نجل رئيس الوزراء الإندونيسي سوهارتو.. غير إن الأزمة المالية التي عصفت بشرق آسيا في يوليو 1997 مهدت الطريق لتغيير ملكية الشركة مرةً أخرى، حيث كان الرئيس التنفيذي لمجموعة فولكس فاجن، "فيرديناند بيش Ferdinand Piëch"، متحمسًا جدًا لشراء العديد من شركات السيارات وضمها للمجموعة، فكانت الصفقات عام 1998 لشراء بنتلي، بوجاتي، ولامبورجيني في سبتمبر من نفس العام، لتستقر إلى يومنا هذا في ملكية المجموعة الألمانية وتحت الملكية والإدارة المباشرة لشركة أودي.
---------
رغم ابتعاد فيروتشيو عن شركة لامبورجيني سنوات طويلة، قبل وفاته في العشرين من فبراير عام 1993، إلا أن روحه الثائرة كانت واضحة جدًا في طرازاتها المختلفة، تلك الروح المحبة للحياة، والتي أثبتت دائمًا أن التهور إذا ما كان محسوبًا وواعيًا يمكن أن يتحول إلى نجاحات باهرة.