"صباح الخير.. إنها الثامنة صباحًا والجو صحو اليوم".. قالتها السيدة "تشين" لموظفة الاستقبال في عيادة شيما للجراحة الموجودة بجوار جسر أيوي بمدينة هيروشيما اليابانية.. كان ذلك منذ سبعين عامًا تقريبًا، بالتحديد في السادس من أغسطس عام 1945، لكنها لم تكن تعرف أنها على موعد مع الموت بعد ربع ساعة من مقولتها تلك؛ حيث كان سرب الطيران الأمريكي "إنولا جاي"، بقيادة الكولونيل "بول تيبتس" يستعد ليمنح المدينة حفنةً من الجحيم، ففي تمام الساعة الثامنة والربع بتوقيت مدينة هيروشيما أخذ السرب الإذن بإسقاط القنبلة الذرية الأولى في تاريخ البشرية، لتصل إلى سقف عيادة الجراحة في 57 ثانية فقط، مخلفةً 145.000 قتيل، مات منهم 80.000 قبل نهاية الدقيقة الأولى من الانفجار، مع تدمير شامل للمدينة الهادئة.
اختفت منازل وشوارع وأسواق ومصانع في ومضة عين، وفي وسط الركام كان يرقد حطام السيارات ذات الشعار المكون من ثلاثة حروف M متتالية.. إنه شعار شركة "مازدا موتور مانيفاكتورير Mazda Motor Manufacturer "، غير أن اليابانيين -كما نعلم- لا يعرفون اليأس، لذلك كانت نهضة هذه الشركة اليابانية من تحت الحطام وعودتها مرةً أخرى إلى السوق بعد ما تعرضت له من دمار أمرًا طبيعيًا.. لكن الحقيقة أن بداية القصة كانت قبل هذه الحرب بكثير..
نشأتها واسمها وشعارها
كانت بدايتها في عام 1920 حين قام مؤسسها "جويجرو ماتسودا" بإنشاء مصنع لتصنيع الآلات والمعدات تحت اسم "تويو كورك كوجيو المحدودة Toyo Cork Kogyo Ltd"، غير أنه عدل الاسم عام 1927 إلى "تويو كوجيو Toyo Kogyo".. وفي عام 1931 بدأت الشركة في تصنيع المركبات بإنتاجها الأول من السيارة "مازدا جو"، ومع بداية الحرب العالمية الثانية اتجهت لتصنيع الأسلحة للجيش الياباني.. وبعد نهاية الحرب وهزيمة اليابان وما حل بالشركة وبالمدينة بأكملها من دمار، اتخذت الشركة منهجًا جديدًا بالتركيز على صناعة المركبات، واستقرت نهائيًا على اسم "مازدا" منذ عام 1984 وحتى اليوم.. وهو الاسم المستوحى من الإله الوثني القديم عند الفرس "أهورا مازدا".
أما الشعار على مركباتها فقد تغير عدة مرات؛ ففي البداية ظهر اسم "مازدا" متموجًا بحروف لاتينية، ليتغير في عام 1936 إلى ثلاثة حروف M، ثم إلى حرف Mمنفردًا بين عامي 1962 و1975، وفي نهاية عام 1975 تغير ليكون اسم "مازدا" بحروف لاتينية وبشكل نصي عادي.. وفي عامي 1991 و1992 كان الشعار عبارة عن دائرة داخلها ماسة زرقاء، ثم جاء التعديل ليمنح الماسة نوعًا من الاستدارة احتفظت به حتى عام 1997، حين ظهر شعارها الحالي الذي يمثل وجه البومة، طائر الحكمة في الثقافة اليابانية.
أزمات ونجاحات
لم تكن القنبلة هي الأزمة الوحيدة –وإن كانت أكبرها بالطبع- التي واجهت مازدا على مدار تاريخها، ففي عام 1960 عانت من صعوبات مالية شديدة، مما اضطرها للدخول في شراكة مع فورد الأمريكية وإطلاق العديد من المشاريع المشتركة، الأمر الذي أجبرها على التوسع خارج حدود اليابان إلى كندا عام 1968 بإطلاقها سيارتها "مازدا كندا"، وإلى الولايات المتحدة الأمريكية عام 1970.. ونتيجة لهذا التوسع بدأت تتعافى من أزمتها، وبدأ ظهور شعارها على سيارات في أوروبا وأفريقيا وآسيا، محققةً طفرات ملحوظة في مبيعاتها، إلا أن الأزمة المالية التي ضربت الاقتصاد الآسيوي عام 1997 نتجت عنها خسائر كبيرة بالنسبة لها، فاضطرت لبيع 33.9% من أصولها لشريكتها القديمة فورد، كما أعادت هيكلة الكادر الإداري الخاص بها، لتنهض مرةً أخرى، وتعود في غضون ثلاث سنوات إلى سابق عهدها..
غير أنها كادت أن تواجه أزمة أخرى عام 2008 مع الأزمة المالية العالمية، والتي تأثر بها قطاع صناعة السيارات بشكل كبير، غير أن مصائب قوم عند قوم فوائد، فلقد كان تأثر شريكتها فورد أكبر بكثير منها، مما اضطرها لعرض 6.8% مما تملكه في مازدا للبيع، لتسارع تلك الأخيرة بالشراء في صفقة رابحة بكل المقاييس.
روتاري
بالطبع لا نقصد تلك الأندية المشوبة بتهمة الماسونية وتمييع الأديان في المجتمع، لكننا نقصد نوعاً من المحركات التي تتميز بصغر حجمها مع ارتفاع قدرتها.. إنه محرك الألماني "فيليكس فانكل" الذي أتم اختراعه في 1957، وتقوم فكرته على تحويل الضغط إلى حركة دوران، بدلاً من استخدام المكابس الارتدادية "السلندرات/الأسطوانات".. لم تتضح الصورة بعد؟ سأشرحها لك في خمسين كلمة J:
إنها أسطوانة واحدة في داخلها مثلث بطولها (منشور ثلاثي)، وفي نقطة من هذه الأسطوانة تتم نفس عملية احتراق البنزين وتوليد تفجير أو ضغط كما في أي أسطوانة في المحرك العادي، فيتحرك المثلث (أو المنشور الثلاثي)، وكلمة جاءت إحدى مسطحاته الثلاثة مقابل هذه النقطة انفجرت في وجهه بالبنزين المحترق، لتدفعها مرةً أخرى، وهكذا.. أو انتظر حتى نكتب عنه العدد القادم إن شاء الله تعالى.
وقد قام بتطويره المهندس "فانكل" من خلال شركة NSU، حتى جاءت مازدا وقامت شركة مازدا بتوقيع عقد استخدام لهذا المحرك عام 1961، غير أن التنافس بينها وبين NSU على طرح أول سيارة في الأسواق كان على أشده.. وعلى الرغم من قيام مازدا بتصنيع نسختها الخاصة من هذا المحرك في نفس السنة، إلا أنNSU كانت الأسرع في طرح سيارتها ذات المحرك الدوار (NSU spider) في عام 1964، غير أن مشاكل متعددة ظهرت في قطعة (رأس الختم Apex Seal) –وهو جزء حساس جدًا في المحرك- أدت إلى أعطال متكررة في سيارات NSU، مما دفع بها لخسائر فادحة، أما مازدا فقد استفادت من خطأ المنافسين كالعادة، وأصلحت العيوب التي كانت فيه.. وبعد إخضاع نسختها من هذا المحرك لمدة 300 ساعة تشغيل بدون أعطال، قدمت سيارتها الأولى بمحرك وانكل، والتي أسمتها "COSMO 110 S"، لتبدأ رحلتها مع تطوير هذه النوعية من المحركات حتى اليوم.
طرازات لكل الأذواق
أحد عشر كوكبًا تدور في فلك مازدا حتى الآن، بعضها مدللٌ صغيرٌ مثل مازدا 2، وبعضها رياضي مكشوف مثل MX5، أو غير مكشوف مثل RX8 ، وبعضها عائلي بسبعة مقاعد مثل CX-9، وبعضها الآخر عائلي بخمسة مقاعد فقط مثل CX-5، CX-7، ومنها الصالون مثل مازدا 3 ومازدا 6، وحتى طراز البيك أب لم تنسَه مازدا فأنتجت السيارة BT-50، أما سيارات الدفع الرباعي، فلقد أنتجتها خصيصًا لكندا من خلال "تريبيوت كندا".
.. ..
إن النهوض من كبوة وراء كبوة لهو أمر اعتيادي عند اليابانيين، فهذا الشعب استطاع أن يبهر العالم على مر السنين، وشركة مازدا مثالٌ حي على الإصرار والتحدي اللذين يتمتع بهما.. صحيح أنهم دقيقو العيون، لكن لديهم بصيره نافذة إلى المستقبل، فالآن تعتبر شركة مازدا من أكبر الشركات في اليابان، وتحتل الترتيب الخامس عشر بين شركات إنتاج السيارات حول العالم، كما أنها لم تنسَ التاريخ، ولم تتخلَ عن مدينتها الهادئة .. هيروشيما.