ألبيرتو بيلوتشي شاب في الخامسة والعشرين من عمره، خرج من منزله في ضاحية تشيتتا ألتا بمدينة بيرجامو الإيطالية ليستقل سيارته الرياضية الفاخرة، خصلات شعره البني تتدلى على جبينه، يرتدي نظارة شمسية كبيرة ويلوك قطعة من اللادن.. شاب إيطالي كما قال الكتاب، والأكثر تأكيدًا على إيطاليته أنه متهور تمامًا، فلقد أدار محرك سيارته من طراز "جرانتوريزمو GRANTURISMO"، واتجه بها إلى الطريق السريع المؤدي إلى مدينة مونزا شرق ميلانو، لتزداد وتيرة تهوره مع ازدياد سرعة سيارته التي انطلق بها بكل احتراف لتنهب الأرض نهبًا، وكأنها رصاصة انطلقت ولن تتوقف إلا عندما تصل إلى هدفها.. وعند وصول الرصاصة - أقصد السيارة إلى وجهتها في مدينة مونزا كانت الحلبة الشهيرة هي مقصدها، ليبدأ الشاب والسيارة فصلاً آخر من السرعة والتهور، لكن بشكل أكثر عنفوانًا هذه المرة.. لم أعرفكم علي عمله، إنه سائق اختبارات لسيارات الطرق، واليوم لديه جولة اختبار لأحد الطرازات الجديدة من تلك التي تحمل شعارًا يمثل الرمح الثلاثي، وقد كُتب تحته بحروف لاتينية اسم "مازيراتي Maserati"..
بداية عائلية جدًا
كانت البداية عام 1881 حين رُزق عامل السكة الحديد "رودلف مازيراتي Rodolfo Maserati" وزوجته "كارولينا لوسي Carolina Losi" بولدهما الأول الذي أسمياه "كارلو Carlo"، ومن بعده رزقا بستة أولاد، "بيندو Bindo" 1883، "ألفيري Alfieri" 1885 الذي توفي عقب ولادته بعدة شهور، فأُعطي اسمه للطفل الذي ولد بعده عام 1887، ثم تلاه "ماريو Mario" 1890، "إتوري Ettore" 1894، ثم أخيرًا "إيرنستو Ernesto" 1898، لتكتمل العائلة بسبعة أبناء منهم ستة على قيد الحياة قبل أن تنتقل للحياة في مدينة "فوجيرا Voghera"، بالقرب من مدينة "بافيا Pavia"..
كان الأخ الأكبر -كارلو- هو المسؤول عن الأسرة بعد وفاة الأب رودولف في سن مبكرة، وهو ما دفعه للعمل في ورشة لصناعة الدراجات في منطقة "أفوري Affori"، القريبة من مدينة "ميلانو Milan"، غير إنه أظهر اهتمامًا كبيرًا بصناعة السيارات، حتى إنه في عام 1899 صمم محركًا ذا أسطوانة واحدة ليُستخدم مع الدراجات الهوائية، وفي ذلك الوقت كانت صناعة السيارات قد بدأت جذب الاستثمارات، ووُضعت في مقدمة التصنيفات كأحد أكثر الأنشطة الصناعية ربحيةً، وهو ما جعل اختراع كارلو يجذب انتباه أحد النبلاء -ويدعى "كاركانو Carcano"- ليتحول في نفس العام إلى حقيقة، وتتم صناعة دراجة نارية تحت اسم "كاركانو" مستخدمةً محرك مازيراتي، ويقوم كارلو باختبارها في منافسات "بريانزا Brianza" محققًا نجاحًا كبيرًا، ولتستمر تلك النجاحات حتى مسابقات "بريشيا Brescia" التي أقيمت في التاسع والعاشر من سبتمبر عام 1900، والتي كانت تحمل مفاجأة جديدة للأخ مازيراتي الأكبر.
وداع مبكر
في بريشيا قابل كارلو "فينتشينزو لانشيا" –مؤسس العلامة الإيطالية لانشيا- الذي قدمه إلى شركة فيات -وكانت في تلك الأثناء شركة جديدة، واستمر كارلو في العمل معها لمدة ثلاث سنوات قبل أن يقرر أن يتركها؛ لينضم إلى الجهاز الفني لفريق سباقات السيارات "إيزوتا فراسكيني Isotta Fraschini" عام 1903، ليغادره بعدها بخمس سنوات إلى فريق "ليورين ديتريش Lorraine-Dietrich" عام 1908 كمسؤول ميكانيكي بالفريق، وبناءً على ما أظهره من براعة تم تعيينه عام 1910 مديرًا عامًا لشركة تابعة لمجموعة "تشيراتو جروب Ceirano Group"، غير إن القدر لم يمهله أكثر من ذلك؛ حيث شعر بآلام مفاجئة وهو يقوم بتجهيز إطلاق سيارة جديدة!
إلى عالم السيارات
بعد وفاة كارلو، اتجه الشقيق إلفيري للعمل مع فريق إيزوتا فراسكيني كسائق وميكانيكي لمدة أربع سنوات، قبل أن يقوم مع إخوته بافتتاح ورشة جديدة خاصة بهم لصناعة المحركات في الأول من ديسمبر عام 1914، غير إن بداية الحرب العالمية الأولى أعاقت تقدم الأعمال، خاصةً بعد أن تم تجنيد الإخوة مازيراتي، غير إن إدارة الجيش الإيطالي فطنت إلى أهمية الدور الذي يمكن أن يلعبه هؤلاء الإخوة في الحرب، فجعلت تجنيدهم عبارة عن عملية تصنيع المعدات للمجهود الحربي داخل ورشتهم الخاصة.. وبعد نهاية الحرب ذاع صيت تلك الورشة مع الوقت، خاصةً بعد صناعة العديد من سيارات السباقات لصالح شركة "دياتو Diatto" التي كان يقوم إلفيري بنفسه بقيادتها في المنافسات العالمية من عام 1920 إلى عام 1926، حين قام الإخوة إلفيري، بيندو، وإرنيستو بتصميم وبناء سيارة خاصة لسباقات الجائزة الكبرى ذات محرك سعة 2 لتر لحسابهم الخاص، والتي أطلقوا عليها "تيبو 26 Tipo "، لتبدأ منذ ذلك التاريخ مسيرة طرازات مازيراتي المميزة.
الشعار
لا بد من حمل شارد وسط القطيع كما تقول المقولة الإنجليزية، والحمل الشارد في أسرة مازيراتي كان "ماريو"؛ فهو الوحيد الذي لم ينخرط في العمل الصناعي وعالم السيارات، حيث عمل كفنان تشكيلي وراسم لوحات، إلا أنه وعلى الرغم من ذلك ستكون له بصمة مميزة على كل سيارة تنتجها الشركة منذ نشأتها وحتى الآن؛ فمع إنتاج أولى سيارات مازيراتي كان لا بد أن يكون لها شعار، وهنا جاء دور الفنان ماريو الذي قام بتصميم شعار عبارة عن رمح ثلاثي ذي لون أحمر، وهو ما يطلق عليه الإنجليز اسم "ترايدنت Trident"، مستوحيًا إياه من التمثال الموجود في نافورة نيبتون بساحة ماجوري ببولونيا، في إسقاط واضح على المعنى الذي يمثله هذا التمثال من قوة وحيوية.
مازيراتي تودع مازيراتي
في الثالث من مارس عام 1932 توفي ألفيري مازيراتي تاركًا إدارة الشركة لبقية إخوته، لكنهم قاموا عام 1937 ببيع حصصهم في الشركة إلى أودلف أورسي، غير إن هذا الأخير احتفظ بهم في إدارة القطاع الهندسي حتى عام 1940، حين قام بنقل مقر الشركة إلى مدينة "مودينا Modena"، وهو المقر الموجود حتى يومنا هذا، ولكن رغم تخلي عائلة مازيراتي عن الشركة، وحتى عن إدارتها بعد عام 1940، كانت سياراتها تحقق تفوقًا بارزًا أمام عمالقة السباقات الأخرى الأقوياء في ذاك الزمان، مثل "جيرمان رايسنج German racing"، "أوتو يونيون Auto Union"، و"مرسيدس Mercedes"، غير إن ارتفاع وتيرة الحرب العالمية الثانية وأحداثها دفع الشركة للتوقف عن إنتاج السيارات، وتوجيه خطوط تصنيعها بالكامل للمجهود الحربي في إنتاج مكونات الأسلحة والمجنزرات، وفي هذه الأثناء حاولت مازيراتي تصميم وصناعة سيارة تحت رعاية الدوتشي "بينيتو موسوليني Benito Mussolini"، على غرار "بيتل" الشهيرة التي صنعتها "فولكس فاجن Volkswagen" للزعيم النازي "أدولف هيتلر Adolf Hitler"، لكن المشروع لم يحالفه النجاح، خاصةً مع نهاية الحرب المأساوية بالنسبة لإيطاليا، والأكثر مأساوية بالنسبة للدوتشي.
الانسحاب من السباقات
كانت مازيراتي من الشركات المشاركة دائمًا بفريقها للسباقات في منافسات قدرة التحمل لألف ميل المسماة "ميللي ميليا Mille Miglia"، والتي أقيمت أربعًا وعشرين مرة بين عامي 1927 و1957، باستثناء ست سنوات بدايةً من العام 1941 وحتى عام 1946؛ بسبب أحداث الحرب العالمية الثانية، وتم استئنافها بعد ذلك من العام 1947 حتى العام 1957، حين وقعت المأساة الكبرى!
كان السباق مكونًا من لفة واحدة كبيرة طولها ألف ميل-1600 كم، وكانت منافساته تتم في الطرق المفتوحة ودون أية قواعد حاكمة للسرعة أو التخطي، وربما كانت هي المسابقات الأكثر تهورًا في تلك الأيام، وعلى المضمار عام 1957 كان الموت يحصد والحوادث تتوالى، فعلى سبيل المثال كانت البداية في اليوم الأول، الثاني عشر من مايو، مع سيارة فيراري 335 ذات المحرك 4.2 لتر، والتي أطاحت مع جسدها الطائر بحياة السائق الأسباني ذي الثماني وعشرين عامًا "ألفونسو دي بورتاجو Alfonso de Portago"، وتسعة متفرجين من بينهم خمسة أطفال، بعدها تحطمت السيارة " تريامف تي آر 3 Triumph TR3" التي كان يقودها "جوزيف جوتجنيس Joseph Göttgens"، وخلال يومين من المسابقات كانت أغلب الشركات قد تضررت من حوادث ممائلة، مما دفع إدارة المسابقة للإعلان عن إلغائها تمامًا، ودفع شركة مازيراتي للتحول عن المشاركة في السباقات والاتجاه إلى الاهتمام بسيارات الركوب الرياضية.
في كنف سيتروين
في عام 1968 قامت شركة صناعة السيارات الفرنسية سيتروين بشراء أسهم وأصول شركة مازيراتي بالكامل، لتصبح المالكة لها وتبدأ في دعم سياراتها بالخبرة الهندسية الكبيرة التي تتمتع بها، مما دفع الإنتاج إلى الازدياد، إلا أنه في عام 1973 مع ظهور أزمة النفط العالمية واحتدامها، كان على الشركة وضع قيود على توسعها الطموح، خاصةً أن الطلب على السيارات الرياضية ذات المحركات الكبيرة المتعطشة للوقود قد تراجع، حتى إن السوق قد تقلصت عام 1974 بنسبة من 60 إلى 70%..
ومع دخول الأزمة عامها الثاني في 1975 كانت الأمور قد انحرفت إلى الأسوأ، وأضحى الوضع غير قابل للإصلاح، ما أدى إلى إعلان إفلاس شركة سيتروين، وإعلان إدارتها في الثاني والعشرين من مايو عام 1975 أن شركة مازيراتي قيد التصفية، إلا أن نقابات العمال وعمدة مودينا والسياسيين المحليين قد قاموا بتعبئة للرأي العام؛ لرفض التصفية للحفاظ على وظائف العاملين في الشركة التي كانوا سيخسرونها حتمًا بسبب الوضع الجديد، وقام وزير الصناعة "كارلو دوناكاتون Carlo Donat-Cattin" بزيارة رئيس شركة سيتروين "فرانسوا روليه Francois Rollier" في يونيو من العام نفسه، ليتوصلا بعد عدة جلسات إلى اتفاق يقضي بتعليق سيتروين لعملية التصفية لمدة ستة أشهر، مع وعد من الحكومة الإيطالية بسداد قيمة الرواتب خلال تلك الفترة، وتلك الاجتماعات هي التي ظهر فيها اسم "أليجندرو دي توماسو Alejandro de Tomaso" لأول مرة كمرشح لقيادة الشركة في الفترة الانتقالية، وهو ما تم بالفعل عقب توقيع عقد في الثامن من أغسطس يقضي بتعيينه مديرًا تنفيذيًا للشركة مقابل حصوله على نسبة 11.25% من أسهمها، على أن تظل النسبة الغالبة -وهي 88.75%- في يد الشركة القابضة المملوكة للحكومة الإيطالية.
الثمانينيات والتسعينيات
مع بداية الثمانينات بدأت الشركة تنتهج سبيلاً جديدًا في عملية التصنيع، هو الاعتماد على المحركات الأمامية مع استخدام نظام الدفع الخلفي، وهو ما يمنح السيارة كفاءة كبيرة في الأداء مع قلة في تكاليف التصنيع، وظهر العديد من الطرازات التي تحمل هذا النمط في التصميم الهندسي، مثل "بيتربو Biturbo"، غير إن النهج الصناعي لم يكن هو الشيء الوحيد الجديد في فكر الشركة تلك الأيام، فلقد كانت تتطلع إلى الأسواق الخارجية أيضًا، وهو ما دفعها للشراكة عام 1984 مع شركة كرايسلر عن طريق شراء الأخيرة لنسبة 5% من مجموع أسهمها، ليتم توقيع عقد تصدير في يوليو من نفس العام إلى السوق الأمريكية، وتقوم كرايسلر برفع حصتها بعد عام واحد فقط إلى حوالي 15.6% من أسهم مازيراتي.
عصر فيات
في 19 من مايو عام 1993 قامت شركة فيات بشراء نسبة 51% من مازيراتي، بعد أن كانت قد اشترت قبل ذلك التاريخ باقي حصص المالكين فيما عدا حصة كرايسلر، لتصبح هي المالك المهيمن على الشركة وتبدأ إعادة تطوير الطرازات المطروحة في الأسواق، إلا أنها في يوليو عام 1997 قامت ببيع نسبة 50% من الأسهم التي تملكها إلى شركة فيراري، عدو مازيراتي اللدود، وهو يعتبر بيعًا داخليًا حيث إن شركة فيراري نفسها مملوكة لشركة فيات، وبعدها في عام 2001 قامت فيراري بتجديد كل معدات مصانع شركة مازيراتي في مودينا، الأمر الذي جعل هذه المدينة تصنف باعتبارها واحدة من أكثر المدن تقدمًا في العالم..
عادت مازيراتي عام 2002 بقوة إلى السوق الأمريكية، كما عادت في ديسمبر 2003 إلى حلبات سباق السيارات مرة أخرى، وحققت سياراتها الفوز في بطولات الفرق ثلاث مرات متتالية..
وفي عام 2005 قامت فيات بإعادة هيكلة مازيراتي لتضم جزءًا منها إلى ألفاروميو التي تملكها أيضًا؛ تمهيدًا لإنشاء مجموعة الشراكة الجديدة التي أعلنت عنها في الثاني والعشرين من يناير بين ثلاث من الشركات المنضمة تحت لواء فيات، وهي: ألفاروميو، أبارث، ومازيراتي، ومع إفلاس شركة كرايسلر عام 2011 قامت فيات بشراء حصتها وضمها إلى ملكيتها، لتصبح مازيراتي حاليًا ملكًا خالصًا لمجموعة فيات كرايسلر.
-------
مائة عام أو أكثر قليلاً هي عمر مازيراتي، منذ أن بدأت كورشة لصناعة مكونات المحركات أنشأها أربعة إخوة، إلى أن أصبحت تعبيرًا عالميًا عن السرعة والقوة والكفاءة، والرمح الثلاثي الأحمر الذي انطلق في أوائل القرن الماضي ما زال يشق الأفق على واجهات نماذج مازيراتي المنطلقة على الطرق في كل مكان حول العالم.